عرض الحديث (6)

 

ثالثا: الاتصال المعرفي

 من الواضح ومن خلال ما تقدم من نصوص ان الشاهد والمصدق الذي يصدق النقل  الظني بالمعارفة الثابتة هو الشاهد العقلائي العرفي المعتمد على المرتكزات الادراكية العرفية. فهو كل شاهد يراه العرف والعقلاء و تميزه الفطرة بالبداهة من دون تكلف او تعمق او تعقيد. ولان العملية مهجورة في عصرنا والعرض على معارف مستفادة من النقل من المهم شرح الشاهد الذي يجعل الحديث الظني مصدقا ويدخله خانة العلم. طبعا ان اوامر العرض وبيان الشواهد انما هو مصداق لمنهج عقلائي اطمئناني هو الاطمئنان بالقرائن، ولاجل ان الكثير من القرائن التي وضعت للاطمئنان بالنقل تتعرض للخلل او للتعقيد او للتخصصية المانعة من تحصيل الاطمئنان من قبل المكلف العادي فان الشاهد المعرفي هو المتيسر دوما لكل مكلف ومميز.

ان الشاهد المصدّق للحديث هو كل معرفة ثابتة تصدق العلاقة والقضية في المضمون المعروض بالطريقة العقلائية العرفية. فليس بالضرورة ان يكون الشاهد بشكل العام للمعروض، بل يكفي اي قدر من المشابهة في الافادة، بحيث انه اذا اريد تمييز الاشياء رد اليها باي واسطة تجوز الرد. فالشاهد هو شكل علاقة واسع وشكل اشتراك واسع، و كل ما يصح ان يكون مشتركا وعلاقة بين معرفتين فهو شاهد.

فلا بد ان يكون هناك تداخل معنوي بين المعروض والمعروض عليه ولا بد ان يكون في المعروض عليه اضاءة واسناد وتأكيد وشاهدية ومصدقية عرفية عقلائية للمعروض ولا بد ان يكون المعروض عليه معرفة ثابتة. فيكون المعروض عليه اصل مصدقا للمعروض. فلا بد ان تتوفر ثلاث شروط في المعرفة المعروض عليها لتكون اصلا للمعرفة المعروضة؛ اولا ان تكون ثابتة معلومة وثانبا ان تكون متداخلة معنويا مع المعروض وثالثا ان تكون شاهدة مساندة موافقة ومصدقة للمعروض.

ان وظيفة الشاهد هو اخراج المعرفة من الظن الى العلم اي من مطلق الجواز الى الجواز الاطمئناني. فالمعرفة الجائزة في الحديث لا تصحح ولا تقبل الا ان يكون لها شاهد يحقق الاطمئنان لجوازها، بمعنى انه ليس كل جائز هو مفبول بل لا بد ان يكون هناك شاهد يبعث على الاطمئنان لها. والشاهد هو كل ما يبعث على الاطمئنان من القرائن المعرفية. و لا بد في الشاهد ان يكون واضحا وبسيطا و متيسرا لكل ملتفت وهذا هو شرط نوعية الشاهد، فلا عبرة بالشاهد المعقد وغير المتيسر للعرف مهما كانت مبانيه و تبريراته و حججه، بل لا بد في الشاهد ان يكون واضحا و مقبولا لكل احد، فلو ان كل ملتفت التفت اليه لاقر به. ومن هنا يمكن بيان الشاهد العقلائي في العرض بانه يتصف بثلاث صفات؛ الاول ان يكون معرفيا مستفادا من المعارف الثابتة من القران والسنة، والثاني ان يكون اطمئنانيا اي انه يبعث على الاطمئنان بالمشهود له باي شكل من التصديق والتطمين، وثالثا ان يكون نوعيا اي انه واضخ ومتيسر ومقبول لكل من بلتفت اليه. وأؤكد ان العرض كله عملية عقلائية بل وفطرية ارتكازية من رد  شيء الى شيء و تبين درجة التناسب و الوئام و التشابه بينهما.

مما تقدم يعلم ان الموافقة والمخالفة هي على مستوى الواضح من المعرفة  اي بين افادات و دلالات نوعية متفق عليها من دون تأويل او اجتهاد او ميل او تكلف. وان الموافقة تكون بكل شكل من اشكال العلاقة و التداخل الدلالي و المعرفي الذي يشهد للاخر و يصدقه عرفا و يحقق اطمئنان.

 لا بد من التذكير ان السنة لا تخالف القران ، بمعنى ان السنة المعلومة لا تعارض القران بل المتتبع يعلم ان لها دوما شاهدا من القران، و الاحاديث الثابتة بنفسها من دون الحاجة الى عرض هي دوما لها شاهد من القران ومن السنة القطعية، فالمصدقية والشواهدية اولية و اساسية بل وذاتية للمعارف الشرعية بكل اشكالها و مستواياتها، كيف و القران نفسه يصدق بعضه بعض بالنص.

تصديق المعارف الشرعية ببعضها بان يكون بعضها مصدق لبعض اساسي ومتأصل فيها، وهذا التصديق والشواهدية يحقق اتصالا معرفيا. ولو اننا عملنا تسلسلا اتصاليا معرفيا وتفرعيا لتبينا ان المعارف الشرعية من قرانية وسنية متصلة بقوة فيما بينها بالشواهد من دون انفصال، وهذا ما نسميه الاتصال المعرفي. وان الشاهد والمصدق في العرض هو من الاتصال المعرفي.  و درجة الشهادة هذه تتباين الا انه دوما هناك شاهد ولو كان فيه بعد او واسطة او مركبا او كان بالارتكاز بل ان الكثير من الشواهد هي ارتكازية لثبوتها و قوتها و ظهورها و يجري احرازها بعملية رد سريعة قد لا تدرك كعمل عقلي اذ ليس بالضرورة اننا ندرك عملية الرد و العرض بل يكفي اننا حققنا ادراك الشاهد. و يمكننا القول ان المعارف الشريعة و وفق اعتبار الشواهد والاتصال المعرفي فانها كالشجرة التي لها جذع و اغصان و اوراق فكلها متواصل ومترابطة، و الرابط لها هو الشواهد و هي الحقيقة و النور الدال على ان تلك المعرفة حق. وكلما كان الاصل اكبر كان اقرب الى المركز و كلما كان الاصل اصغر كان ابعد و كان اقرب الى اطرافها الا انها كلها متصلة و اصل الاصول كلها هو التوحيد. وكلما كان الشاهد اوضح و اقوى كان الاتصال اقوى، فلدينا اتصال معرفي في قبال الاتصال السندي، وهذا الاتصال المعرفي في الشرع له درجات في القوة و الوضوح و له منازل في القرب و البعد عن الاصل الكبرى و الاصول المركزي. ان هذا الفهم يفتح بابا كبير على علم في الشرع يمكن ان نسميه علم ( الاتصال المعرفي)، وترتب في المعارف بحسب اصليتها و فرعيتها فالاصل الاكبر – اي التوحيد – اولا ثم الاصول الاكبر فالاكبر حتى نصل الى الفروع و فروع الفروع في الاطراف في شجرة الاتصال المعرفي في الشرع.


ان العرض والتصديق امر عقلائي فطري، وان العرض الشرعي وظيفة كل مكلف وغير مختصة بالفقهاء.. وهذا هو اساس التصحيح المتني المعرفة للاخبار بل لكل المعارف الشرعية كما انه الاساس لعصمة المعرفة.