عرض الحديث (4)

 الموضع الثالث: في المصدّقيّة

المصدّقيّة محور معرفة الحق

   قال الله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ). ان هذه الآية مفصلة ومحكمة بخصوص الايمان بالدعوة  وشروط ودواعي تصديقها وتبين شرط التصديق بالنقل. وهي ظاهرة في ان المعرفة  المصدقة لما قبلها من معارف حقّة هو المعتبر في الايمان بالدعوة. كما انها تدل على النهي بالتشبث بالنقل الخاص (بما عند الانسان او الجماعة) ورفض النقل الخارجي (ما عند الغير او عند جماعة اخرى) بحجة الاكتفاء بالأول. ومن خلال اطراف الدعوة والنقل وعدم تعرض الآية لشخصية الناقل تشير الى عدم الاعتبار بحال الناقل  وانما الاعتبار بالمضمون و الدعوة ذاتها .

ان محورية القيمة المتنية للخبر ليس فقط مما يفرضه العقل بل الشرع ايضا، فهو نظام له دستور وروح ومقاصد  وقطب تدور حوله باقي اجزائه و انظمته وتتصل به. وكل ما يخالف تلك الروح والمقاصد  ولا يتصل بها لا يصح الاخذ به . فالشرع  نظام واضح المعالم فيه معارف ثابتة قطعية لا يصح مخالفتها، والاخبار الظنية مهما كانت درجة الاطمئنان بصدورها فانها خاضعة فيه للتقييم المتني كما هو حال اي نظام معرفي اختصاصي له اسس واصول ويحتكم الى عمومات وقواعد ثابتة ظاهرة هي دستور النظام وعموده وعلى ذلك ظاهر الاخبار المستفيضة بل المعارف الشرعية الثابتة. و من الجلي جدا ان في الشريعة معارف ثابتة لا يصح قبول ما يخالفها، و يكون المخالف لها  مشكلا ضعيفا (معرفيا) وان كان قويا (صحيحا سنديا)، وغير المخالف قويا (صحيحا معرفيا)  وان كان ضعيفا سندبا. بل ان القرآن والسنة قد جاءت بذلك بشكل لا يقبل الشك  كما ستعرف.

ان محورية المصدقية - وهي وجود مصدّق وشاهد في المعرفة المعلومة السابقة للمعرفة الجديد التي تطرح  كعلم - في قبول الدعوة و تبيّن احقيتها ظاهر في الكتاب العزيز قال الله تعالى (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ). فهنا جعلت الدعوة للايمان بسبب ان الدعوة مصدقة و موافقة لما عند المدعوين. و كذلك قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) و قوله تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) و قوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) و قال تعالى (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ) هذه الآية تشير الى ان مصدر الايمان كون المسموع هدى بشكل مطلق من دون نظر الى حالة الناقل. و ان قوله تعالى  (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) يشير الى ان المذهبية باطلة اذ نهى القران و ذم التعذر بالتشبث بالخاص (الطائفي المذهبي) وامر بالايمان بالهدى متى ما سمع. وقوله تعالى   (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ )  يشعر بل هو ظاهر بان المصدقية شرط في الكتابية والحقية فيه فيكون الاخبار الالهي والشهادة هي من باب التأكيد وليس التأسيس. بل ان ظاهر القرآن كون المصدقية هي الداعي والمعتبر لتصديق القائل بدعوته؛ قال تعالى (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [البقرة/41] ) . بل ان النهي قد ورد صريحا في عدم جواز رد الدعوة المصدقة بما عند المدعو ؛ قال تعالى (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [البقرة/41]) .كما ان الله تعالى قد وصف الدعوات التي ليس لها مصدق بالظن الذي لا يصح اتباعه قال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء/82]) وعدم الاختلاف هو المصدقية، وقال الله تعالى (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ) وعدم المصدق الشاهد هو من عدم السلطان والبرهان. فلاحظ كيف ان القران بين كون فقدان السلطان من الله تعالى بمصدق او شاهد انه مما تهوى الانفس واسقط تلك المعرفة عن الاعتبار بذلك، و من الظاهر ان ذلك بغض النظر عن القائل. و يشعر بذلك نفي العلم عن المعرفة الظنية التي لا تتسم بالمصدقية قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (*) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) فان العلم المفقود هنا واثبات الظن هو لاجل عدم الحجة والبرهان والسلطان والذي اساسه وجود مصدق وشاهد. فما لا مصدق له ولا شاهد فهو ظن.  اذن المصدقية في الدعوة و الداعي اليها هي المعتبر الحق  و الداعي للايمان بها، و ان رد الدعوة المصدقة بما عند المدعو منهي عنه ومذموم قرآنيا .

و يؤيد كل ما تقدم ان الله تعالى جعل الصدق والحق شرطا في المعرفة العلمية  ووجه الايمان بالدعوة واتباعها، و ان الواجب اتباع الصدق والحق (القولي المتني) بعلاماته الذاتية بغض النظر عن قائله وطريق نقله ووصوله قال تعالى (  وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (*) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) فلاحظ كيف جعل الله تعالى الصدق دال على العلم وان غيره هو الظن وان اشتهر. فصدق المعرفة – بعلامات ذاتية ( كالمصدقية المتنية)- هو الطريق للعلم بصدورها من الشارع.   قال تعالى (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ). ان الامر هنا وجه الى الكافرين كما هو ظاهر وهو مبطل صراحة للقول باعتبار الناقل، ومثله قوله تعالى (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فان المركزية هنا لكون المعرفة حقة بغض النظر عن نقالها. و قال تعالى (  قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ َ ) و الآية ظاهرة في جعل الحق والمضمون الموافق له المصدر والداعي الاساسي لقبول الدعوة لا غير . ان هذا التعريف العلمي للظن بانه ما خالف الصدق وان العلم هو ما كان صدقا  يبطل دعوى ان قوة السند تقلل من ظنية الخبر، بل المعيار كله هو العلم بالصدق بعلامات ذاتية في القول وليس بشيء غير متني كالطريق والقائل، فالقائل المعروف بالصدق والضبط ان تكلم بما هو غير هدى (غير صدق ولا حق) لم يجز العمل بقوله مهما كان، كما ان من لا يعرف بالصدق ولا الضبط ان تكلم بالهدى (بالصدق والحق) الذي يعرف بعلاماته الذاتية كالمصدقية فانه يجوز الاخذ به بل يجب ان حصر العلم او العمل الواجب به.  وآيات الحق دالة على كون  مصدر الايمان هو ما في المتن والمضمون من معرفة مطلقا من دون الاشارة الى القائل في هذا المقام؛ قال تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) و قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ )  وقال تعالى (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) وهذه الاية كالنص ان الصدور يعلم بدلالة المتن وهداه ويس العكس.   

وعلى ذلك جاءت الاخبار المستفيضة المصدقة بذلك و الموافقة لذلك.  فعن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل شيء مردود إلى كتاب الله والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف. وعن ابن أبي يعفور، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف يرويه من يثق به ، فقال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتموه له شاهد من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه واله، (فخذوا به) وإلا فالذي جاءكم به أولى (فلا تاخذوا به).  وعن أبي الحسن الرضا عليه السلام انه قال لا تقبلوا علينا خلاف القرآن فإنا إن تحدثنا  حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة، إنا عن الله وعن رسوله نحدث، ولا نقول: قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا، إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا، وكلام أولنا مصداق لكلام آخرنا، وإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه وقولوا: أنت أعلم و ما جئت به، فإن مع كل قول منا حقيقة وعليه نور، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك قول الشيطان. اقول هذا الحديث نص في اثبات الصدور عن طريق المتن وتصديقه.