عرض الحديث (22)

 

أطراف عملية العرض

 

في الحقيقة عملية العرض هي عملية عقلائية بسيطة و تجري وفق التمييز و المدركات و الاستعدادات البشرية لدى كل انسان ،بل ان العرض من المرتكزات الفطرية في كل نفس الا انه كاداة  ضابطة لتمييز المعارف و منها تمييز الحديث - اي ما يصح ان يتعبد به مما لا يصح التعبد به -  يحتاج الى تذكير وشرح ليس الا. ولاجل ان هذا المنهج مهجور الان تقريبا و غير مؤكد عليه فانا هنا اشرح اطراف و جوانب هذه العملية لا اكثر . وهنا مواضع للكلام:

الموضع الثاني: العارض

 العرض يكون وفق الطريقة العقلائية البسيطة بمدراك العقل  الواضحة الصريحة و العملية الحياتي التي ندير به شؤون حياتنا من دون اصطلاح و لا تخصيص. ولخصوص عرض النصوص اي الكيانات اللغوية فان العرض يكون بالبحث عن شواهد لها في ما يرد اليه النص. و كما انه لا يصح بالفطرة و بسيرة العقلاء التسليم و الاقرار الا بما وفق النظام و تناسق معه فانه لا يصح التسليم لحديث ظني الا بعد الاطمئنان له واحراز موافقته للمعارف الثابتة و لو ارتكازا فلا يشترط الالتفات و ابراز عملية العرض بل يكفي فيها الارتكاز وخصوصا في الواضح موافقته.

ومن هنا يتبين ان العارض هو كل من عرف من الدين اصوله و ثوابته و ادرك النص المعروف بمعناه اللغوي المعروف عند اهل اللغة، فلا يختص بالعلماء و الفقهاء فضلا عن المجتهدين بل هو وظيفة  كل مكلف و جائز على كل من التفت و ادرك جوانب العرض. ولاجل ان عملية العرض هي عقلائية ارتكازية و المعروض عليه هي ثوابت الشريعة المعروفة و المتفق عليها المعروفة و المعروض هو الاحاديث المنقولة فان الاستطاعة متحققة في كل مكلف و لا عسر و لاحرج فيها. و حتما ان سعة الاطلاع تقوي القدرة على العرض و تسرعه و تزيد من الثقة بالنفس و اليقين بالموافقة و المخالفة، الا ان العرض ممكن و متيسر بالحد الادنى من المعارف. وان اوامر التعلم تحث على الاطلاع على الاحاديث الظنية و عرضها لتمييز مالعلمي الموجب للاطمئنان من غيره.

 

الموضع الثالث : الشواهد و المصدقات

من الواضح ومن خلال ما تقدم من نصوص ان الشاهد و المصدق الذي يصدق النقل  الظني بالمعارفة الثابتة هو الشاهد العقلائي العرفي المعتمد على المرتكزات الادراكية العرفية. فهو كل شاهد يراه العرف و العقلاء و تميزه الفطرة بالبداهة من دون تكلف او تعمق او تعقيد. ولان العملية مهجورة في عصرنا و العرض هو لاقوال منقولة على منظومة معارف مستفادة من النقل بالنسبة لنا كان من المفيد شرح الشاهد الذي يجعل الحديث الظني مصدقا و يدخله خانة العلم. طبعا ان اوامر العرض و بيان الشواهد انما هو مصداق لمنهج عقلائي اطمئناني هو الاطمئنان بالقرائن، ولاجل ان الكثير من القرائن التي توضع للاطمئنان بالنقل تتعرض للخلل او للتعقيد او للتخصصية المانعة من تحصيل الاطمئنان من قبل المكلف العادي فان الشاهد المعرفي هي المتيسر لدوما كل مكلف و مميز.

ان الشاهد المصحح للحديث هو كل معرفة ثابتة تصدق العلاقة و القضية في المعروض، فليس بالضرورة ان يكون الشاهد بشكل العام او المطلق للمعروض، بل يكفي اي قدر من المشاكلة و المشابهة، بحيث انه اذا اريد تمييز الاشياء رد اليها باي واسطة تجوز الرد. فالشاهد هو شكل علاقة واسع و شكل اشتراك واسع، و كل ما يصح ان يكون مشتركا و علاقة بين معرفتين فهو شاهد.

ان وظيفة الشاهد هو اخراج المعرفة من الظن الى العلم اي من مطلق الجواز الى الجواز الاطمئناني . فالمعرفة الجائزة في الحديث لا تصحح ولا تقبل الا ان يكون لها شاهد يحقق الاطمئنان لجوازها، بمعنى انه ليس كل جائز هو مفبول بل لا بد ان يكون هناك شاهد يبعث على الاطمئنان لها. و الشاهد هو كل ما يبعث على الاطمئنان من القرائن المعرفية. و لا بد في الشاهد ان يكون واضحا و بسيطا و متيسرا لكل ملتفت وهذا هو شرط نوعية الشاهد، فلا عبرة بالشاهد المعقد و غير المتيسر للعرف مهما كانت مبانيه و تبريراته و حججه، بل لا بد في الشاهد ان يكون واضحا و مقبولا لكل احد، فلو ان كل ملتفت التفت اليه لاقر به. ومن هنا يمكن بيان الشاهد العقلائي في العرض بانه يتصف بثلاث صفات الاول ان يكون معرفيا مستفادا من المعارف الثابتة من القران و السنة و الثاني ان يكون اطمئنانيا اي انه يبعث على الاطمئنان بالمشهود له باي شكل من التصديق و التطمين و ثالثا ان يكون نوعيا اي انه واضخ ومتيسر و مقبول لكل من بلتفت اليه. و اخيرا اؤكد ان العرض كله عملية عقلائية بل و فطرية ارتكازية من رد  شيء الى شيء و تبين درجة التناسب و الوئام و التشابه بينهما.

مما تقدم يعلم ان الموافقة و المخالفة هي على مستوى الواضح من المعرفة  اي بين افادات و دلالات نوعية متفق عليها من دون تأويل او اجتهاد او ميل او تكلف. وان الموافقة تكون بكل شكل من اشكال العلاقة و التداخل الدلالي و المعرفي الذي يشهد للاخر و يصدقه عرفا و يحقق اطمئنان.

ان الموافقة عامة لاي معرفة مهما كانت درجة علميتها سواء كانت علمية او ظنية في المعروض او المعروض عليه. و اما المخالفة فالامر مختلف فان معنى المخالفة للمعرفة المعلومة في العلميات ( المعلوم)  تختلف عنها في الظنيات ( المطنون). اذ ان للعلم ان يحكم على العلم و ليس للظن ذلك وهذا هو الفرق، فالمخالفة في العلمي تعني خصوص التعارض المستقر الذي لا يقبل التأويل  وليس منه انظمة الحكومة اي التخصيص و التقييد و النسخ، و ان و المخالفة التعارضية  ممنوعة في الشريعة بين العلميات. و اما المخالفة للعلمي من قبل الظني فهي كل مخالفة للظاهر باي شكل حتى التخصيص و التقييد . هذه النقطة ربما سببت ارباكا  عند البعض في معنى المخالفة، و ربما حتى في معنى الموافقة. و لاجل مزيد بيان نؤكد ان الموافقة تجري في جميع اشكال المعرفة من ظنيات او علميات سواء كان المعروض عليه علما – كالكتاب و السنة- او ظنا – كخبر الواحد-  و سواء كان المعروض علما او ظنا، و تتحق الموافق بكل ما يصح ان يكون شاهدا و مصدقا عرفيا عقلائيا. و اما المخالفة للعلمي اي اذا كان المعروض عليه علميا – كالكتاب و السنة- فانها تعني التعارض التام اذا كان المعروض علما، و كذا الحال اذا كان المعروض عليه ظنا و المعروض علما لاجل خكومة العلم على العلم و العلم على الظن. و اما اذا كان المعروض عليه علما –  كالكتاب و السنة- و المعروض ظنا- كخبر الاحاد- فان المخالفة تعني كل اشكال مخالفة الظاهر حتى التخصيص و التقييد وهذا القسم الاخير هو الذي نجريه على الاحاديث الظنية اي اخبار الاخاد.

والنسخ من الحكومة الجائزة بالشرع لثبوته بنسخ العلم للعلم فلا يتخلف من صنف لاخر. كما ان حكومة العلمي على العلمي لا يعني اختلافا بل يعني ان المحكوم عليه في الاصل – ان لم يكن نسخا- مراد منه ما تؤدي اليه الحكومة، مثلا اذا جاءت معرفة علمية – كتاب او سنة- مطلقة او عامة و جاءت معرفة علمية اخرى – كتاب او سنة- مقيدة او مخصصة فان ذلك يعني ان المراد الاصلي في المطلق و العام هو المقيد و الخاص ولاجل هذه الحقيقة فان ابطال الرأي و القياس في الشريعة ليس ثابتا شرعيا بل مطلبا عقلائيا ايضا.