عرض الحديث (53)
خامسا: الحديث الصحيح موافق للفطرة
هذا اصل قطعي ثابت من أصول الشريعة
ودلت عليه نصوص ومعارف قطعية منها:
وقال تعالى
(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) تعليق
وهنا حسن فطري عقلائي.
وقال تعالى (اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ )
و قال تعالى (وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا ).
والحسن هذا كله ارتكازي
عقلائي ووجداني .
كما ان القران اعلى شأن العقل و اعماله؛ قال
تعالى ( لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
). و قال تعالى (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ). و
قال تعالى (وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ). و قوله تعالى
(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ،وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ ). فخاطب الله العقول بل حصر الاهتداء الى الحق باهل العقول، فاستعمال
العقل لأجل الاهتداء و تبين الحقائق و الايمان و الاعتقاد السليم من جوهر الشريعة
فقال تعالى (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) و قال تعالى (كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُو الْأَلْبَابِ ) و قال تعالى (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ).
بل ان الكفر والنفاق هو من علامات عدم العقل والفهم ؛ قال تعالى (ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ) . و قال تعالى (وَأَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ ) و قال تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ
الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ). و قال تعالى (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ). وقال تعالى
(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) و العقل هنا هو التعقل و
التدبر و التمييز الفطري الهادي الى النور و حقائق الايمان.
ان موافقة الحق للفطرة وتصديق الوجدان لها وانها
وفق نهج العقلاء كلها امور راسخة في المعارف الشرعية لذلك هي ملحوظة في اصول
الشريعة وفي المعارف الثابتة التي يرد اليها الحديث، فان مخالفته للفطرة والوجدان
والعقل يعني انه مخالف للقران والسنة بلا ريب.
المناقشات بخصوص حديث العرض ذكرتها مفصلا في كتاب
( رسالة في حديث العرض) وكلها لا وجه لها وهنا شيء منها باختصار:
الأول: اعتبار صحة السند
قيل باعتبار ان يكون السند متصلا بالنقل وان يكون
بواسطة نقلة ثقات بالنقل وهذا الشرط لا دليل عليه بل الدليل خلافه كما ان البعض
اكتفى به مصححا للخبر وهو لا يصلح بذاته ان يكون على للتصحيح بل ان جواز عدم صدور
الخبر الصحيح سندا ممكن ما دام ظنا لان الظنية تقبل الخطأ.
واما ما يخالف اعتبار السند فنصوص قرانيه وحديثية
منها:
اصالة صدق المؤمن و
تصديقه
قال تعالى : هُوَ أُذُنٌ
قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. ) أقول: قال الطوسي وقوله
" ويؤمن للمؤمنين " قال ابن عباس: معناه ويصدق المؤمنين. انتهى. اقول ان اذن اي يصدق كل ما يقولون له ظاهر في المبالغة
في تصديقهم وهو السنة. و قال تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ
وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. ت: الذي جاء بالصدق هو المؤمن. قال
الطوسي وقوله (والذي جاء بالصدق وصدق به) قال قتادة وابن زيد: المؤمنون جاؤا
بالصدق الذي هو القرآن وصدقوا به. ثم قال قال الزجاج: الذي - ههنا والذين بمعنى
واحد يراد به الجمع. وقال: لانه غير مؤقت. انتهى و
قال تعالى: لِيَسْأَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ، وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا . ت:
فقابل الصادق مقابلة الكافر. وقال الطبرسي و قيل ليسأل الصادقين في توحيد الله و
عدله و الشرائع عن صدقهم أي عما كانوا يقولونه فيه تعالى .انتهى وقال تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ .: ت
و( الصادقين ) هنا المؤمنون حقا ، قال الطوسي والصادق هو القائل بالحق العامل به،
لانها صفة مدح لاتطلق الا على من يستحق المدح على صدقه. فأما من فسق بارتكاب
الكبائر فلا يطلق عليه اسم صادق. انتهى و قال تعالى: إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا. ت: و الفاسق في القران هو بخلاف
المهتدي قال تعالى (وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفَاسِقِينَ) و قال تعالى (لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) و قال تعالى ( سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ )
و قال تعالى (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ). قال الطوسي (إذا
جاء كم فاسق) وهو الخارج من طاعة الله إلى معصيته). ثم قال وفي الآية دلالة على أن
خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل، لان المعنى إن جاء كم فاسق بالخبر الذي لا
تأمنون أن يكون كذبا فتوقفوا فيه، وهذا التعليل موجود في خبر العدل، لان العدل على
الظاهر يجوز أن يكون كاذبا في خبره. فالامان غير حاصل في العمل بخبره. و قال
الطبرسي و قد استدل بعضهم بالآية على وجوب
العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من حيث أن الله سبحانه أوجب التوقف في خبر الفاسق
فدل على أن خبر العدل لا يجب التوقف فيه و هذا لا يصح لأن دليل الخطاب لا يعول
عليه عندنا و عند أكثر المحققين. انتهى اقول هذا متين مع ان الفاسق لا يقابله
العدل بل يقابله المؤمن وان كان يذنب ، و
العدل يقابله العاصي ما دام غير خارج عن الطاعة و الهداية. كما ان خبر الواحد لا
يقسم عند السنديين الى خبر عدل و خبر غير
عدل بل يقسم الى خبر راو صحيح و خبر راو غير صحيح وهو اخص من العدل كما يعلم ففيه
شروط كثيرة غير العدالة. والعدل هو المسلم حسن الظاهر، واين هذا من شروط الراوي
الصحيح الكثيرة المتكثرة؟
لاحظ ايها الاخ العزيز
كيف ان السنة تصديق المسلمين و كيف جعل القران صفة الصدق و الصادقين ملازمة
للمؤمنين وعلامة لهم و عنوانا. وهذا الاصل يؤسس الى جواز الاخذ من المسلم ان لم
يعلم منه كفر او فسق وهو التمرد المنطوي على خبث. ولا يثبت مثل هذه العظائم اقصد
الكفر و الفسق الا بالعلم فلا ينفع الظن؛ ومنه روايات الاحاد والاجتهادات بل لا بد
من اخبار توجب العلم. وهذا الاصل مما يشهد لاطلاقات حديث العرض الذي لم يميز بين
المسلمين وهو المصدق باصول الاخوة و الولاية و حسن الظن.
اقول هذه الاصول اي الرد الى القران و السنة و تصديق الحق بعضه
بعضها وكون المصدقية علامة الحق و اصالة صدق المسلم و تصديقه كلها بنفسها تدل على
شرعية العرض اي عرض الاحاديث الظنية (الاحاد) المنسوبة الى الشرع على محكم القران
و الثابت من السنة والاخذ بما وافقها و رد ما خالفها. ولما كان حديث العرض مصدقا لها ومصدقا بها فكان
حقا والحمد لله.
ان العرض بالرد الى
الثابت و التمسك بما وافقه هو من المصاديق الواضحة لامتال امر الله تعالى بعدم
الاختلاف و الفرقة قال تعالى (وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ) اي فاجتمعوا على الحق وهو حبل
الله كما قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)
فليس الغاية هي الاجتماع ولو على باطل بل الغاية هي الاجتماع على الحق و التمسك به والحق ما له اصل وشاهد ومصدق من المعلوم الثاقبت. والعرض يحقق الاتصال
المعرفي برد كل معرفة الى ما هو ثابت مما هو فوقها او قبلها معرفيا. و من الظاهر
ان عرض ما هو مختلف فيه على محكم القران و السنة والاخذ بما وافقهما و ترك ما
خالفهما رفعا للفرقة و دافعا لها ولو انه اتبع لقل الاختلاف بل لزال. فالعرض هو من
امتثال الاعتصام بحبل الله وهو من اسباب الجماعة و عدم الفرقة. و الله الموفق.
إشارة: ان التحقق من صحة السند يقتضي مقدمة هي المعرفة
باحوال الرواة وهذا يستوجب تتبع عورات المسلمين و اسقاط قولهم و بالظن وهذا كله
مخالف للشرع قطعا و قد بر بتبريرات اجتهادية لا وجه لها.
واستدل بقوله تعالى ( ذوا عدل منكم ) و اعتبار
العدالة في البينة
وفيه ان الشهادة على الامر الحضوري الشهودي مختلف
عن الخبر عن امر غيبي سابق وقوعه لا يمكن الحس به ولا التحقق منه. وثانيا ان ذوا
عدل الظاهر انها بيان للمسلم وليس شرطا وهو الموافق لعلم القران بان الأصل في المؤمن العدالة. و ثالثا يعتبر في البينة
التعدد ولا يعتبر ذلك اهل السند و رابعا ان العدالة متحققة بالمسلم الا يعلم العكس
و ليسما يصوره البعض انه العكس فالمسلم عدل حتى يثبت غير ذلك. وعرفت الاحاديث
المتقدمة التي دلت باطلاقها بل وبعضها نصا بعدم اعتبار البحث في حال الراوي
المسلم، وغيرها أيضا دل على ذلك. كما انه لا ملازمة بين عدالة الراوي
وصحة الصدور فان الخلل في النقل ليس متوقفا فقط على العدالة بل لا بد من ضبط جهات
اخرى لا يمكن ضبها الا ظنيا كالسهو او التوهم.
الثالث: الاشكال على المعروض عليه والعارض
أشكل البعض على ان العرض على القران و السنة
يقتضي المعرفة التفصيلية بهما والمعرفة بالتفسير والمحكم من غيره والمخصصات وان
العرض هي من وظيفة الفقهاء وفيه ان العرض يكون على المعارف المعلومة لكل مسلم من
الدين وانما أراد الشارع بالعرض على القران أي ما يعلم منه عند المسلمين وليس عند اهل التفسير
ولا الفقهاء فالعرض يكون على المعارف الضرورية منهما وما صدق و اتصل بها والعرض
وظيفة كل مسلم وليس مختصا بالفقهاء او اهل التفسير واهل الحديث. كما ان العرض على
تلك المعارف الراسخة المعلومة من محكم القران وقطعي السنة والمعروض هو خصوص الحديث
الظني وليس ما علم قطعا من السنة فان ما علم قطعا من السنة لا يعرض ولا يخالف
المعلوم من محكم القران.
الحديث الصحيح بحسب القران والسنة وحسب منهج العرض والذي هو حق وصدق ويفيد العلم هو الحديث الذي له شاهد من الثابت المعلوم من المعارف المستفادة من محكم القران وقطعي السنة. وباختصار هو الحديث الذي له شاهد من القران. فالحديث الذي له شاهد من القران فهو حديث صحيح والحديث الذي ليس شاهد من القران فهو حديث ضعيف