عرض الحديث (3)
الموضع الثاني: أصول تحصيل المعرفة
من
المعلوم لكل أحد انّ في الشريعة الاسلامية أصولا كبرى، تؤسس عليها باقي المعارف فيها وترد
البها وتعرف وتصدق بها. وما يهمنا هنا في مجال النقل وتحصيل المعرفة الاصول التالية:
الاصل الاول: الرد الى القرآن والسنة والعرض
عليهما.
قال
الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.
تعليق: قال في الوجيز { فإن تنازعتم } اختلفتم وتجادلتم
وقال كلُّ فريق: القولُ قولي : فَرُدُّوا الأمر في ذلك إلى كتاب الله وسنَّة رسوله.
و قال السعدي ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى
رسوله، أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية. وقال الطوسي: فمعنى الرد إلى الله هو إلى كتابه
والرد إلى رسوله هو الرد إلى سنته. و هو قول مجاهد، وقتادة، وميمون بن مهران، والسدي:
والرد إلى الائمة يجري مجرى الرد إلى الله والرسول، ولذلك قال في آية أخرى " ولو
ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ولانه إذا
كان قولهم حجة من حيث كانوا معصومين حافظين للشرع جروا مجرى الرسول في هذا الباب.انتهى.
اقول وهو مقتضى الامر بطاعتهم و السنة الآمرة بالتمسك بهم حتى عند من لا يقول بعصمتهم. هذا وقد جاء في الحديث المصدق في النهج قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : الرد
إلى الله الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.
كما انه في حال حضور الوي من نبي او امام يكون الرد اليه اي الى شخصه فيكون ذكر
الله تعالى هنا للتعظيم والاستفتاح والاصل، فيكون الرد الى شخص الرسول في حياته
والى من يقوم مقامه بعده وهو ولي الامر الخليفة الوصي الى يوم القيامة، وفي حال
غيابه يكون الرد الى اقرب الفقهاء علما وخلقا منه وهذا ما بينت تفصيله في كتب
اخرى.
وقال
الله تعالى : (مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ).
تعليق:
قال السعدي { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ } من أصول دينكم وفروعه، مما لم
تتفقوا عليه { فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } يرد إلى كتابه، وإلى سنة رسوله، فما حكما
به فهو الحق، وما خالف ذلك فباطل. وقال ابن عجيبة المختار العموم ، أي : وما اختلفتم
فيه أيها الناس من أمور الدين ، سواء رجع ذلك الاختلاف إلى الأصول أو الفروع ، فحُكم
ذلك إلى الله ، وقد قال في آية أخرى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ }. وقال الطوسي وقوله (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله)
معناه ان الذي تختلفون فيه من أمر دينكم ودنياكم وتتنازعون فيه (فحكمه إلى الله) يعني
أنه الذي يفصل بين المحق فيه وبين المبطل، لانه العالم بحقيقة ذلك. انتهى. اقول وقول
الشيخ الطويي هو المصدق، على انه ايضا يحمل على المعنى الذي ذكره ابن عجيبة، فيكون
حكمه في الدنيا والاخرة. والاية تؤسس لاقامة حكم الله في الارض، فيرجع الى النبي
او الوصي او الفقيه الجامع ( الذي يجمع الامة بتقديمه) من باب انه حاكم بكتاب الله
تعالى.
وقال الله تعالى : وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.
تعليق: قال الماوردي { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } وفيهم ثلاثة أقاويل : أحدها : أنهم الأمراء ،
وهذا قول ابن زيد، والسدي . والثاني : هم أمراء السرايا . والثالث : هم أهل العلم والفقه،
وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وابن جريج ، وابن نجيح ، والزجاج . وقال الطوسي (ولو ردوه إلى الرسول) بمعنى لو ردوه إلى سنته
" وإلى أولي الامر منهم ". قال أبوجعفر (صلوات الله عليه): هم الائمة المعصومون.
وقال ابن زيد، والسدي، وأبوعلي: هم امراء السرايا، والولاة، وكانوا يسمعون باخبار السرايا
ولا يتحققونه فيشيعونه ولايسألون أولي الامر. وقال الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن
أبي نجيح، والزجاج: هم أهل العلم، والفقه الملازمين للنبي صلى الله عليه وآله، لانهم
لو سألولهم عن حقيقة ما أرجفوا به، لعلموا به. قال الجبائي: هذا لايجوز، لان أولي الامر
من لهم الامر على الناس بولاية. والاول (اي
الرد الى الائمة المعصومين) أقوى، لانه تعالى بين أنهم متى ردوه إلى أولي العلم علموه.
والرد إلى من ليس بمعصوم، لايوجب العلم لجواز الخطأ عليه بلا خلاف سواء كانوا امراء
السرايا، أو العلماء. انتهى اقول المصدق ان الرد ترتيبي اي الى الرسول حال حياته و
بعده الى اولي الامر وهو الذي يقوم مقام الرسول المفترضة طاعتهم وان الرد الى ولي الامر
طريقي فلا بد ان يكون على علم بالله والرسول مما يؤهله ان يكون هاديا. واما القول
انهم الامراء او العلماء كاصل فانه ينتقض بعدم العموم لاجل النقص الداخل عليهما،مع
ان الامر كان في حياة رسول الله صلى الله عليه واله واما القول انهم امراء السرايا
فلا يتناسب مع فرض الرد العاصم وان كان له وجه حكمة لاجل وحدة الكلمة. هذا ويجوز ان
يعبر عن الواحد بلفظ الجمع فيكون المراد واحدا وهو من اشارت اليه السنة بقوله صلى
الله عليه واله ( من كنت مولاه فعلي مولاه). كما انه في حال غياب الخليفة الوصي
فان الامر بالرد لا يسقط فيكون من الامكان وفي حال الاضطرار الى الرد الظاهري يكون
الى اقرب الفقهاء علما وخلقا ومنه وهو المقدم من قبل باقي الفقهاء.
وقال
الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا.
تعليق
: قال ابو السعود { واعتصموا بِحَبْلِ الله } أي بدين الإسلامِ أو بكتابه لقوله عليه
الصلاة والسلام : « القرآنُ حبلُ الله المتينُ).
وقال الطوسي و " واعتصموا " امتنعوا بحبل الله واستمسكوا به - الى
ان - قال في معنى قوله: " بحبل الله " قولان قال أبوسعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله أنه كتاب الله. وبه
قال ابن مسعود. وقتادة والسدي. وقال ابن زيد " حبل الله " دين الله أي دين
الاسلام. وقوله: " جميعا " منصوب على الحال. والمعنى اعتصموا بحبل الله مجتمعين
على الاعتصام به. انتهى، فالاعتصام هو التمسك اي عمليا هو الرجوع و الرد. المصدق ان
حبل الله كتابه اذ ان فيه نص قطعي، والمقصود ما علم منه قطعا واتفق عليه من معانيه
واحكامه. وهذا امر في غاية الاهمية للانطلاق نحو اجراء عدة اساسية وجهرية في
المعارف الاسلامية وفي حركة المجتمع الاسلامي.
اقول؛
هذا الايات هي الاساس النقلي في منهج العرض - اي عرض الحديث على القران و السنة - مع
الاساس العقلائي والفطري لمنهج القرائنية و التمييز والرد والفرز. ولا يقال انها في مورد الاختلاف، حيث انها ولاجل
مجيئها موافقة لسلوك عقلائي عام، انما كانت
من باب المثال والمصداق والتطبيق. و هذا الذي يشهد له اصل نقلي اخر هو ايضا يقع ضمن
اطار السلوك العقلائي في احراز و قصد توافق المعارف وتناسبها و تناسقها و هو الاصل
الثاني التالي اي ان الحق يصدق بعضه بعضا.
الاصل الثاني : ان الحق يصدق بعضه بعضا ولا
يختلف.
قال
الله تعالى: وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ
.
تعليق:
قال في الجلالين{ بِمَا وَرَاءَهُ } سواه أو بعده من القرآن { وَهُوَ الحق } حال {
مُصَدِّقاً } حال ثانية مؤكدة . وعن ابن عجيبة وهم { يَكْفُرُونَ بِمَا ورَاءَهُ }
أي : بما سواه ، وهو القرآن ، حال كونه { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ }. وقال الطوسي قوله: " هو الحق مصدقا "
يعني القرآن مصدقا لما معهم - ونصب على الحال - ويسميه الكوفيون على القطع. انتهى وقوله على الطقع يفصله الطبرسي
رحمه الله تعالى حيث قال : قوله « مصدقا » نصب على الحال وهذه حال مؤكدة قال الزجاج
زعم سيبويه والخليل و جميع النحويين الموثوق بعلمهم أن قولك هو زيد قائما خطأ لأن قولك
هو زيد كناية عن اسم متقدم فليس في الحال فائدة لأن الحال يوجب هاهنا أنه إذا كان قائما
فهو زيد و إذا ترك القيام فليس بزيد فهذا خطأ فأما قولك هو زيد معروفا وهو الحق مصدقا
ففي الحال هنا فائدة كأنك قلت أثبته له معروفا و كأنه بمنزلة قولك هو زيد حقا فمعروف
حال لأنه إنما يكون زيدا بأنه يعرف بزيد و كذلك القرآن هو الحق إذا كان مصدقا لكتب
الرسل (عليهم السلام). انتهى. ان ظاهر الاية بان المصدقية من ملازمات الحق وعلاماته،
و كلام الاعلام يوجب الجزم بذلك اظهرها قول ابو السعود ( احقه مصدقا) و قول الطبرسي
(القرآن هو الحق إذا كان مصدقا لكتب الرسل). وقال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. ت وهو كسابقه.
وقال
تعالى: آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ. تعليق: قال السعدي {
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } أي: موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا، فإذا كان موافقا
لما معكم من الكتب، غير مخالف لها; فلا مانع لكم من الإيمان به، لأنه جاء بما جاء به
المرسلون، فأنتم أولى من آمن به وصدق به، لكونكم أهل الكتب والعلم. وقال السمرقندي
{ وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ } ، أي صدقوا بهذا القرآن
الذي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم مصدقاً أي موافقاً لما معكم. قال الطبرسي « آمنوا » أي صدقوا « بما نزلنا » يعني
بما نزلناه على محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) من القرآن و غيره من أحكام الدين « مصدقا
لما معكم » من التوراة و الإنجيل اللذين تضمنتا صفة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم)
و صحة ما جاء به. قال الطوسي :" آمنوا " معناه صدقوا، لانا قد بينا ان الايمان
هو التصديق " بما انزلت " يعني بما انزلت على محمد " صلى الله عليه
و اله " من القرآن. وقوله: " مصدقا " يعني ان القرآن مصدق لما مع اليهود
من بني اسرائيل من التوراة وامرهم بالتصديق بالقرآن، واخبرهم ان فيه تصديقهم بالتوراة،
لان الذي في القرآن من الامر بالاقرار بنبوة محمد " ص "، وتصديقه نظير الذي
في التوراة والانجيل وموافق لا تقدم من الاخبار به، فهو مصداق ذلك الخبر وقال قوم:
معناه انه مصدق بالتوراة والانجيل الذي فيه الدلالة على انه حق والاول الوجه، لان على
ذلك الوجه حجة عليهم، دون هذا الوجه. انتهى اقول لاحظ كيف امر الله تعالى بالايمان
لاجل انه مصدق، فوضع المصدفية بدلا من الحق المصرح به في ايات اخرى. وان ما يؤمر بالايمان
به هو الحق، فجعل الموجب للايمان المصدقية و قد جعل موجبها الحق في ايات اخر.
فيستفاد من ذلك ان المصدقية ليست فقط علامة للحق بل بدل عنه.
وقال
الله تعالى: الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. تعليق : وهو يدل ايضا على الملازمة بين الحق والمصدقية و يجري فيه الكلام
السابق. قال الطوسي " مصدقا لما بين يديه " يعني القرآن، ويعني مصدقا لما
سلف من كتب الله امامه التي انزلها على رسله، وتصديقا لها: موافقة لمعانيها. انتهى
اقول المصدق ان السابق يكون مصداقا و مصدقا للتالي فقوله مصدقا لما قبله اي موافقا
وبهذه الموافقة يكوت السابق مصداقا للموافق. وبالموافقة صرح الطبرسي قال: قوله « مصدقا لما بين يديه » معناه موافقا لما بين
يديه من الكتب ومصدقا له بأنه حق و بأنه من عند الله لا مكذبا لها . وقال في موضع اخر « مصدقا لما بين يديه » أي لما قبله من كتاب ورسول
عن مجاهد و قتادة و الربيع و جمع المفسرين و إنما قيل لما بين يديه لما قبله لأنه ظاهر
له كظهور الذي بين يديه و قيل في معنى مصدقا هاهنا قولان ( أحدهما ) أن معناه مصدقا
لما بين يديه و ذلك لموافقته لما تقدم الخبر به وفيه دلالة على صحة نبوته (صلى الله
عليهوآلهوسلّم) من حيث لا يكون ذلك كذلك إلا و هو من عند الله علام الغيوب ( و الثاني
) أن معناه أن يخبر بصدق الأنبياء و بما أتوا به من الكتب. و لا يكون مصدقا للبعض ومكذبا
للبعض. انتهى اقول والحق الاول ولاحظ قوله (و فيه دلالة على صحة نبوته (صلى الله عليهوآلهوسلّم)
من حيث لا يكون ذلك كذلك إلا و هو من عند الله علام الغيوب) فانه بين ان الموافقة دالة على الصحة، و استدلاله مستند على
الفهم العقلائي بان ما هو كذلك لا يكون الا من عالم الغيب لاجل الموافقة. وذكر القرآن
من المثال للحق الشامل للقران و السنة اي للمعارف الدينية. وان من اهم معجزات المعارف
الشرعية - مع عددها الكبير جدا الذي هو بالالف من القضايا- انها غير متعارضة ولا متناقضة
فكان هذا كاشفا ان التوافق والتناسق اوليا فيها وذاتيا. وهو يؤسس لاصل ان هذه
الصفة الثابتة لللمعارف المعلومة ينبغي ان تكون صفة لما سيعلم وسيقر من معارف
جديدة، فلا بد من عرض الجديد على القديم وما يراد العلم به على المعلوم. وهو جوهر واساس منهج العرض.
وقال
تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. تعليق :
قال السعدي (ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين
والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة
والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا،
فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى:
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا
} أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلا. وقال ابن عجيبة يقول الحقّ جلّ
جلاله : أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون { القرآن } ، وينظرون ما فيه من البلاغة والبيان
، ويتبصّرون في معاني علومه وأسراره ، ويطلعون على عجائب قصصه وأخباره ، وتَوافُق آياتهِ
وأحكامه ، حتى يتحققوا أنه ليس من طوق البشر ، وإنما هو من عند الله الواحد القهار
، { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا } بَين أحكامه وآياته ، من
تَفَاوتِ اللفظ وتناقض المعنى ، وكَون بعضه فصيحًا ، وبعضه ركيكًا، وبعضه تصعب معارضته
وبعضه تسهل ، وبعضه توافق أخباره المستقبلة للواقع ، وبعضه لا يوافق ، وبعضه يوافق
العقل ، وبعضه لا يوافقه ، على ما دل عليه الاستقراء من أن كلام البشر ، إذا طال ،
قطعًا يوجد فيه شيء من الخلل والتناقض.
اقول
ان هذه الايات تدل على ان المصدقية لها محورية في تحقيق الاطمئنان ومعرفة الحق وتمييزه
ان لم نقل بانها توجب ذلك، و ان عدم المصدقية مما يبعث على عدم الاطمئنان ان لم يمنعه.
وان هذا الاصل بمعية الاصل السابق و الاصل العقلائي بل الفطري من العرض و الرد في التمييز
والفرز يحقق نظاما معرفيا معلوما و ثابتا ، هو مصدق وشاهد لحديث العرض بل واساس له.
بل ان هذه الاصول بنفسها كافية في اثبات العرض
ولو من دون الحديث. وهل حديث العرض في حقيقة الامر الا من فروع تطبيقات تلك الاصول
ومصداق لها و ليس تأسيسا لمعرفة مستقلة وهو الظاهر لكل متتبع.
الاصل
الثالث صدق المؤمن وتصديقه
قال
الله تعالى : هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِينَ. تعليق : قال ابو السعود { وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } أي يسمع كلَّ
ما قيل من غير أن يتدبَّرَ فيه ويميّزَ بين ما يليق بالقَبول لمساعدة أَمارات الصدقِ
له وبين ما لا يليق به . ... { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي يصدّقهم لِما علم فيهم
من الخلوص ، واللامُ مزيدةٌ للتفرقة بين الإيمان المشهورِ وبين الإيمان بمعنى التسليمِ
والتصديق كما في قوله تعالى : { أَنُؤْمِنُ لَكَ } الخ وقوله تعالى : { فَمَا ءامَنَ
لموسى }. قال الطبرسي : قال أبو زيد رجل أذن إذا كان يصدق بكل ما يسمع. وقال ايضا
« و يقولون هو أذن » معناه أنه يستمع إلى ما يقال له و يصغي إليه و يقبله. قال الطوسي
وقوله " ويؤمن للمؤمنين " قال ابن عباس: معناه ويصدق المؤمنين. انتهى اقول
ان اذن اي يصدق كل ما يقولون له ظاهر في المبالغة في تصديقهم وهو السنة التي ينبغي
التأسي بها بل يجب العم بها كاصل. فتصديق المسلم هو الاصل وحجية قوله هي الاصل
والخروج من ذلك يحتاج الى قرينة لا العكس الذي هو المشهور في كتب الجرح والتعديل
وعلم الرجال.
وقال
الله تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
تعليق: الذي جاء بالصدق هو المؤمن. قال ابو السعود الموصولُ عبارةٌ عن رسولِ الله صلى
الله عليه وسلم ومَن تبعه. واستسهد يقراءة
(والذين جَاءُوا). اقول القراءة هذه هي التأويل لان الثابت ان لفظ القران واحد لا يتعدد
وهو الذي عليه المصحف و غيره من قراءات هي تأويل الا انه لشدة قصد المراد الواقعي و
البيان المعرفي لا المعنوي الظاهري ولا المركب
اللفظي عندهم فانهم يعمدون الى التعبير بالتأويل بدل المتن . وهذا ما اوهم بتعدد الالفاظ
واختلاف في كلمات او حروف. فمعنى قولنا: وفي قراءة ابن مسعود ((والذين جَاءُوا) يحمل
على انه اراد ان يقول ان (وَالَّذِي جَاءَ) يراد به ((والذين جَاءُوا) فذكره لشدة قصد
المراد ولان الخطاب غايته المعرفة و ليس اللفظ.
قال الطوسي وقوله (والذي جاء بالصدق وصدق به) قال قتادة وابن زيد: المؤمنون
جاؤا بالصدق الذي هو القرآن وصدقوا به. ثم قال قال الزجاج: الذي - ههنا والذين بمعنى
واحد يراد به الجمع. وقال: لانه غير مؤقت.
وقال
تعالى: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ، وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا
أَلِيمًا . تعليق: فقابل الصادق مقابلة الكافر. بل قال ابو السعود انهم الانبياء...
أو المصدِّقين لهم عن تصديقِهم فإنَّ مصدِّقَ الصَّادقِ صادقٌ وتصديقَه صدقٌ. وقال الطبرسي و قيل ليسأل الصادقين في توحيد الله
وعدله و الشرائع عن صدقهم أي عما كانوا يقولونه فيه تعالى .
وقال
تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ .: تعليق و( الصادقين ) هنا المؤمنون حقا ، قال
ابو السعود أي كونوا مع المهاجرين والأنصارِ. و قال الطوسي والصادق هو القائل بالحق
العامل به، لانها صفة مدح لاتطلق الا على من يستحق المدح على صدقه. فأما من فسق بارتكاب
الكبائر فلا يطلق عليه اسم صادق.
وقال
تعالى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا. تعليق: الفاسق في القران هو
بخلاف المهتدي قال تعالى (وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفَاسِقِينَ) و قال تعالى (لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) وقال تعالى
( سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) و قال تعالى (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ ) فلا يطلق على مؤمن. قال الطوسي (إذا جاءكم فاسق) وهو الخارج من طاعة
الله إلى معصيته). ثم قال وفي الآية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل،
لان المعنى إن جاء كم فاسق بالخبر الذي لا تأمنون أن يكون كذبا فتوقفوا فيه، وهذا التعليل
موجود في خبر العدل، لان العدل على الظاهر يجوز أن يكون كاذبا في خبره. فالامان غير
حاصل في العمل بخبره. و قال الطبرسي و قد استدل
بعضهم بالآية على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من حيث أن الله سبحانه أوجب
التوقف في خبر الفاسق فدل على أن خبر العدل لا يجب التوقف فيه و هذا لا يصح لأن دليل
الخطاب لا يعول عليه عندنا و عند أكثر المحققين. انتهى اقول هذا متين مع ان الفاسق
لا يقابله العدل بل يقابله المؤمن وان كان
يذنب ، والعدل يقابله العاصي ما دام غير خارج عن الطاعة و الهداية. كما ان خبر الواحد
لا يقسم عند السنديين الى خبر عدل و خبر غير
عدل بل يقسم الى خبر راو صحيح و خبر راو غير صحيح وهو اخص من العدل كما يعلم ففيه شروط
كثيرة غير العدالة. والعدل هو المسلم حسن الظاهر، واين هذا من شروط الراوي الصحيح الكثيرة
المتكثرة؟
وقال
تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ
لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ. تعليق: وقدم الصدق لصدقهم السابق. قال ابو
السعود : وللتنبيه على أن مدارَ نيلِ ما نالوه من المراتب العليةِ هو صدقُهم . قال
الطوسي وقوله " أن لهم قدم صدق عند ربهم " معناه ان لهم سابقة إخلاص الطاعة
كاخلاص الصدق من شائب الكذب. انتهى اقول المصدق الموافق للسياق ان ثوابهم لسابقة صدقهم
وهو الاخلاص.
لاحظ
ايها الاخ العزيز كيف ان السنة تصديق المسلمين و كيف جعل القران صفة الصدق والصادقين
ملازمة للمؤمنين وعلامة لهم و عنوانا. وهذا الاصل يؤسس الى جواز الاخذ من المسلم ان
لم يعلم منه كفر او فسق وهو التمرد المنطوي على خبث. ولا يثبت مثل هذه العظائم اقصد
الكفر و الفسق الا بالعلم فلا ينفع الظن؛ ومنه روايات الاحاد والاجتهادات بل لا بد
من اخبار توجب العلم. وهذا الاصل مما يشهد لاطلاقات حديث العرض الذي لم يميز بين المسلمين
وهو المصدق باصول الاخوة و الولاية و حسن الظن. فخبر المسلم حجة كاصل ويقتضي
العمل، فان كان له شاهد من القرآن وجب العمل به، وان لم يكن له شاهد حكم بتشابهه
فلا يعمل به، ولا يكذب مؤمن ولا يكذب خبره الا بالعلم انه كذب. فتديق المسلم وصدقه
وحجية قوله تقتضي العمل بخبره والذي يحقق ويتم بوجود شاهد له، ولا يعني وجوب العمل
بخبره مطلقا وان كان بلا شاهد.
اقول
هذه الاصول اي الرد الى القران و السنة و تصديق
الحق بعضه بعضها وكون المصدقية علامة الحق و اصالة صدق المسلم و تصديقه كلها بنفسها
تدل على شرعية العرض اي عرض الاحاديث الظنية (الاحاد) المنسوبة الى الشرع على محكم
القران والثابت من السنة والاخذ بما وافقها و رد ما خالفها. ولما كان حديث العرض مصدقا لها ومصدقا بها فكان
حقا والحمد لله.
ان
العرض بالرد الى الثابت و التمسك بما وافقه هو من المصاديق الواضحة لامتثال امر الله
تعالى بعدم الاختلاف و الفرقة قال تعالى (وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ) اي فاجتمعوا على الحق وهو حبل الله
كما قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) فليس الغاية
هي الاجتماع ولو على باطل بل الغاية هي الاجتماع على الحق و التمسك به. والعرض يحقق
الاتصال المعرفي برد كل معرفة الى ما هو ثابت مما هو فوقها او قبلها معرفيا. و من الظاهر
ان عرض ما هو مختلف فيه على محكم القران والسنة والاخذ بما وافقهما و ترك ما خالفهما
كفيل برفع الفرقة ودفعها. ولو انه اتبع لقل الاختلاف بل لزال. فالعرض هو من امتثال
الاعتصام بحبل الله وهو من اسباب الجماعة و عدم الفرقة. والله الموفق.