عرض الحديث (23)

 

وهنا ايضا يحسن الاشارة الى ان ظاهر الاية المحكمة و السنة الثابتة هو علم ، فاذا جاء علم اخر – من كتاب او سنة – فخصص او قيد و بين ان المعنى الظاهري ليس مرادا فهذا لا يعني ان دلالتها الظاهرية ظن، و لا يحولها ذلك الى ظن، بل هي علم و تبقى علما الا ان العلم الحاكم من مخصص او مقيد او ناسخ يكشف عن ان هذا الظاهر المعلوم ليس مرادا. فظاهر الالفاظ ليس ظنا كما يشاع بل هو علم لانه مصدق بارادات و فواعد التخاطب و الافهام و التفهيم، وانما التأويل والاحتمال هو الظن. الظاهر محقق لقدر من الاطمئنان يفوق كثيرا من الاطمئنانات التي تعامل كالعلم، فهو علم و العلم عند العقلاء ليس فقط القطع بل هو مطلق الاطمئنان الذي يبنى عليه وهذا من الواضحات و لا علاقة للدقيات العقلية في هذا الشأن العرفي العقلائي. ان اقحام الابحاث الدقية و الفلسفية في نظام التخاط و الفهم و التفهيم اضر كثيرا في حقيقته و في مصداقية نتائجه وحرفه عن فطريته و عقلائيته. ان الحكومة الدلالية جائزة كما ان الحكومة الدليلية جائزة، فكما ان دليل معلوم يحكم على دليل معلوم فان دلالة ظاهرية معلومة تحكم على دلالة ظاهرية معلومة، و لا تكون بذلك الدلالة المحكومة عليها ظن و لا تصبح ظنا و لا يكشف ذلك على انها ظن.

ولا بد من التذكير ان السنة لا تخالف القران ، بمعنى ان السنة المعلومة لا تعارض القران تعارضا مستمرا بل المتتبع يعلم ان لها دوما شاهدا من القران، و الاحاديث الثابتة بنفسها – اي العلمية- من دون الحاجة الى عرض هي دوما لها شاهد من القران و من السنة القطعية، فالمصدقية و الشواهدية اولية و اساسية بل و ذاتية للمعارف الشرعية بكل اشكالها و مستواياتها، كيف و القران نفسه يصدق بعضه بعض بالنص. ولو اننا عملنا تسلسلا اتصاليا معرفا و تفرعيا لتبينا ان المعارف الشرعية من قرانية و سنية متصلة بقوة بالشواهد من دون انفصال، وهذا ما نسميه الاتصال المعرفي، و الشاهد و المصدق في العرض هو من الاتصال المعرفي.  و درجة الشهادة هذه تتباين الا انه دوما هناك شاهد ولو كان فيه بعد او واسطة او مركبا او كان بالارتكاز بل ان الكثير من الشواهد هي ارتكازية لثبوتها و قوتها و ظهورها و يجري احرازها بعملية رد سريعة قد لا تدرك كعمل عقلي اذ ليس بالضرورة اننا ندرك عملية الرد و العرض بل يكفي اننا حققنا ادراك الشاهد. و يمكننا القول ان المعارف الشريعة و وفق اعتبار الشواهد و الاتصال المعرفي فانها كالشجرة التي لها جذع و اغصان و اوراق فكلها متواصل و مترابطة، و الرابط لها هو الشواهد و هي الحقيقة و النور الدال على ان تلك المعرفة حق. وكلما كان الاصل اكبر كان اقرب الى المركز و كلما كان الاصل اصغر كان ابعد و كان اقرب الى اطرافها الا انها كلها متصلة و اصل الاصول كلها هو التوحيد. و كلما كان الشاهد اوضح و اقوى كان الاتصال اقوى، فلدينا اتصال معرفي في قبال الاتصال السندي، وهذا الاتصال المعرفي في الشرع له درجات في القوة و الوضوح و له منازل في القرب و البعد عن الاصل الكبرى و الاصول المركزي. ان هذا الفهم يفتح بابا كبير على علم في الشرع يمكن ان نسميه علم ( الاتصال المعرفي)، ترتب في المعارف بحب اصليتها و فرعيتهافالاصل الاكبر – اي التوحيد – اولا ثم الاصول الاكبر فالاكبر حتى نصل الى الفروع و فروع الفروع في الاطراف في شجرة الاتصال المعرفي في الشرع.

الموضع الاول : المعروض و المعروض عليه

المعروض في عملية العرض هو كل ما ينسب الى الشريعة من امر ليست مقطوع بها ولا اطمئنان متحقق بحقها؛ وهذا اوسع من النقل و اهمه طبعا الحديث الشريف و تفسير الايات. فالعرض مختص بالظني من النقل ولا فرق بين صحيح السند و ضعيفه. ومن المهم التأكيد ان العرض ليس لحديث معلوم ناهض بنفسه للعلمية وثابت و محقق للاطمئنان فان مثل هذا لا يحتاج الى عرض لان العرض هو لتحقيق الاطمئنان وهو متحقق. ولان عدم التناقض و الاختلاف هو من ؤون المعارف الشرعية خاصة فان العرض مختص بما يروى عن النبي صلى الله عليه و اله و ما ينسب الى شرعه. و لاجل اطلاقات احاديث العرض و سهولة الشرعية و معذرية الجهل فان للعامل العمل بما يثتب موافقته للقران و السنة حتى يتبين له وجود مخصص او مقيد. و اما بخصوص المعارض المحتمل لما ثبت موافقته فهو اثنان لا ثالث لهما اما انه مخالف للقران و السنة وهذا لا يعمل به وان انفرد، و اما انه موافق ايضا لهما فهنا المورد للتخيير. من هنا  فما يجهله المكلف لسبب من الاسباب هو اما مخالف للقران لا يقبل او انه موافق له وهذا اما معارض فيتخير بينه و بين ما عنده، او ان فيه تخصيص او تقيد وهذا يكون المكلف معذورا بجهله، ومن هنا فان ما عرفه المكلف بالعرض و ثبت عنده يعمل به على كل حال. هذا وان الحث الكبير و الايجاب المؤكد للشريعة على التعلم تجعل من هذه الفروض قليلة مع ضرورة الالتفات الى اهمية اعداد جوامع حديثية مختصرة كافية شافية مقتصرة على المتون من دون تطويل بالاسنايد او الشروح، لاجل تيسير الرجوع اليها، فان تيسير اطلاع الناس على الحديث مهم جدا و وهناك خطوات مباركة من هذا النوع تحقق الكفاية للمطلع و المتعلم و لقد وفقني الله تعالى الى جمع ثمانية الاف حديث بالمتون فقط من امهات الكتاب و امهات المسائل هو كاف شاف للمتعلمفي كتابي ( السنة القائمة) ، و اسال الله التوفيق ان اجمع جميع متون الاحاديث التي راواها المسلمون في كتاب واحد من دون اسنايد او شروح او تكرار.

و اما المعروض عليه فهو المعارف الثابتة المعلومة المتفق عليها من القران و السنة التي لايختلف عليها اثنان،و ما يكون عنها و يتصل بها ن معارف. لذلك فالعرض ليس على منطوق اية او تفسير او حديث ثابت و لا على دلالته الخاصة، بل هو على الاستفادة و المعرفة المعلومة الثابتة المتفق عليها من ايات او روايات ثابتة. وبينا ان هذا كله يجري وفق طريقة العقلاء في جميع الاستفادات و الافادات و التحليلات و التوصلات من دون اي تخصيص . لذلك فهي طريقة نوعية بشرية عقلائية واحكامها متشابهة لدى كل ملتفت على المتطلبات الاساسية للعرض، بمعنى انه اذا جرى عارض معين عرضا وفق هذه الطريقة فان احكامها ستكون متطابقة مع غيره من ابناء جنسه، وهذا اضافة الى انه يؤدي الى بيان عناصر الوحدة فانه بتوافق المعارف و تناسقها فانه يؤدي الى عدم الاختلاف لا في المعارف ذاتها ولا عند اصحابها فقط بل عند المشتركين معه في المعرفة. كما انها شكل من الاعتصام الواضح بالعلم والحق. ان لعرض الحديث على القران و السنة و الاخذ بما وافقهما و ترك ما خالفهما وفهم وجوب الاتصال بين المعارف يحقق فوائد كثيرة اهمها: انه يمثل امتثالا لاوامر الرد الى الله و الرسول و لاوامر الاعتصام بحبل الله تعالى، وانه من السبل القوية نحو الجماعة و عدم الفرقة و انه يمثل سبيلا طبيعيا فطريا للوصول الى الحقائق الشرعية و معرفة الحق بعلم و يقين و انه يتجاوز الحواجز الفئوية لعدم اهتمامه بالمذهبيات المدرسية و لا بالسند و احوال الرواة.