عرض الحديث (15)
ثانيا أسس معرفة الحديث
المسالة (1):: المعارف المحورية
الشريعة الاسلامية معارف متصلة ببعضها يصدق بعضها بعضا، وهي لا تنطلق من المجهول والمغيب، بل تنطلق من معارف محورية جلية جدا بينة ليس فقط للمسلم بل لغير المسلم يعرف انها جوهر الاسلام ومحوره. تلك المعارف المحورية التي هي راسحة في وجدان كل مسلم لها عدة وظائف وخصائص:
اولها انها الاساس الذي تبنى عليه غيرها من معارف شرعية وترد اليها ويعتبر في صحة غيرها اتساقها وتناسقها وتوافقها معها وهذا هو الاتصال المعرفي فلا يقر لمعرفة لا تتصل بتلك المعارف المحورية اتصالا معرفيا واضحا بالاتساق والشواهد والمصدقات.
ثانيها: ان على كل مسلم ان يجعل تلك المعارف خليطة بوجدانه وكيانه وافكاره فلا يقبل ما يخالفها مهما كان مصدره وتعدده وانتشاره فانها عصمة امره وطريق نجاهته.
ثالثها: ان تلك المعرف المحورية مصدرها المعارف القرانية المحكمة المتفق على فهمها ودلالتها والسنة القطعية المتفق على صدورها ودلالتها ولا يجوز ابدا خلط غيرها بها مهما كان الميل والشهرة لها.
فمعرفة المعارف الشرعية ومنها الحديث يكون بترسخ تلك المعارف المحورية في نفس المسلم واعتماد رد غيرها اليها واحكامها بها، ولا يجب اكثر من ذلك في معرفة الحديث وتمييزه والاحتجاج بها.
ان ما يبينه الباحثون في قواعد علم الاحتجاج ومنه علم اصول الفقه ليست نظريات فوقية خارجة عن متناول العقلاء، وانما هي شرح لطريقة العقلاء العادية في التعامل مع النص. بمعنى اخر انه لا يتوقف فهم النص على معرفة ذلك العلم، وانما البحث في ذلك العلم لأجل منع التأويل التدقيقي الباطل. و من هنا فادعاء وجوب العلم بقواعد الاصول لفهم النص فهما شرعيا و علميا امر لا واقعية له. بل ان الحقيقة ان فقه النص لا يأتي من معرفة علم الاحتجاج و انما يأتي من سعة المعرفة بمنظومة نصوص ذلك الفن، فالمختص الاكثر معرفة بتلك المنظومة يكون اقدر على الفهم الواقعي لنصوص ذلك الفن، و منه علم الشريعة وهذا من الواضحات. و لهذا فان من العقلائية والعلمية الاكثار من قراءة القران والسنة مباشرة ومن دون تدخل التفسيرات والشروح غير المعصومة. وعلى الفقهاء والدلة تيسير ذلك. وسبب الاختلاف ليس عدم معرفة علم الاحتجاج ومنه علم اصول الفقه، و انما سبب الاختلاف الجهل بمنظومة المعارف النصية الحقة وسوء التوفيق .
المسألة (2) : العلمية والظنية
هناك اختلاف جوهري في طريقة التعامل مع الاخبار فطرف يهتم بالمتن ويتبع منهج عرض الروايات على القران والسنة دون اهتمام بالسند فيستفيد العلم من القرائن ولا يكتفي بالظن وطرف يهتم بالسند ويقدمه على المتن حيث يتبع منهج تقسيم الحديث الى اصناف حسب السند، الاستعاضة بذلك عن العرض والقرائن و يكتفي بالظن . ومن الواضح و بمجرد خلع قيد التقليد والمدرسية ان الدارس سيعلم ان منهج ( المتنية) العلمية هو الموافق للقران و السنة ، وان ( السندية ) الظنية لا مستند واضح عليها.
ان اكبر مشكلة في عصرنا تواجه المعرفة الدينية هي مشكلة ( الغلو في الحديث) حيث ان الافراط في اعتماد السند أدى الى ادخال الظن في علوم الدين مما أدى الى تبني نصوص حديثية ليس لها شواهد بل ومخالفة للراسخ في الوجدان وللحقيقة. كل ذلك بحجة صحة السند، حتى ان السند اصبح عند البعض وثنا، اتبعوا فيه ما لا يصح نسبته الى الشريعة ولا الى أهلها وجر الويلات على المسلمين وسبب الفرقة والاختلاف كله بسبب التأويلات الباطلة و الظنون التي لم يعثر لها على حجة الا صحة السند فعارضت ما هو ثابت وحق وابتعدت عن الفطرة و الاعتدال.
و يمكن اجمال الاختلافات المنهجية بين المدرسة المتنية العلمية و المدرسة السندية الظنية بما يلي:
المدرسة المتنية العلمية المدرسة السندية الظنية
منهج في معرفة الحديث الشريف و تقييمه اعتمادا على المتن. منهج في معرفة الحديث الشريف و تقييمه اعتمادا على السند.
الالية بعرض الحديث على محكم القران و السنة الثابت. الالية بفحص السند من جهة اتصال السند و ثقة الرواة.
كل حديث وافق محكم القران و السنة الثابتة يؤخذ به. وهو المحكم كل حديث متصل السند بالرواة الثقات و الممدوحين يؤخذ به.وهو الحديث الصحيح و المعتبر.
كل حديث يخالف محكم القران و السنة الثابتة لا يؤخذ به . وهو االمتشابه. كل حديث غير متصل السند او فيه راو ضعيف لا يؤخذ به وهو الحديث ضعيف.
الدليل على المنهج صريح محكم القران و السنة المتفق عليها. الدليل عليه ادلة غير متفق عليها.
ليس مشهورا رغم ادلته. يتبناه الموسوي الحلي. هو المشهور رغم ضعف ادلته. يتبناه جمهور الفقهاء.
من ادلته الايات الدالة على ان الحق لا يختلف و يصدق بعضه بعضها. وهو ثابت من ادلته هو اية التبين في خبر الفاسق . ولا يثبت دليلا.
من ادلته حديث العرض على القران و السنة و الاخذ بما وافقهما و رد ما خالفهما. وهو ثابت. من ادلته احاديث جاء فيها لفظه فهو ثقتي او هما ثقتان او من تثق به. و لا يثبت دليلا.
من ادلته سيرة العقلاء بان المعارف التي تنبع من مصدر واحد يصدق بعضها بعضا. من ادلته سيرة العقلاء بالاطمئنان للثقة و عدم الاطمئنان لخبر غير الثقة. ولا يثبت دليلا.
من شواهده لزوم تصديق المسلم و عدم جواز رد حديثه. من شواهده اعتبار البينة في الشهادة.
المتنية لا تعتمد علم الرجال و لا ترتضيه لانه طعن في المسلمين السندية تعتمد كليا على علم الرجال.
المتنية و المصدقية تستلزم اخراج الحديث من الظن الى العلم. فالعمل بالعلم؟ السندية و اعتبار السند لا تستلزم اخراج الحديث من الظن الى العلم. فالعمل بالظن.
المتنية تتكفل بعصمة المعرفة بعدم قبول ما خالف الثوابت المعرفية و رد المعرفة بعضها الى بعض . السندية لا تتكفل بعصمة المعرفة بل قد تستلزم السندية القول بخلاف الثوابت.
المتنية تتكفل بتقليل الخلافات العقائدية و العملية (الفقهية) السندية تعجز عن تقليل الخلافات العقائدية و العملية ( الفقهية) بل قد تكرسها.
المتنية يمكن ان تتجاوز المدرسية و المذهبية و تعتمد جميع كتب المسلمين الحديثية. السندية تكرس المدرسية و المذهبية و تقسم الكتب و الرواة و الفقهاء الى مذاهب و مدارس.
بنبذها علم الرجال فيمكنها اعتماد جميع كتب المسلمين الحديثية وتعتبر اساسا لوحدة المسلمين. باعتمادها علم الرجال و تقسيم الكتب حسب المذاهب تعتبر عقبة اما وحدة المسلمين.
ان اهم الفروقات المنهجية بين المتنية و السندية هو اعتبار المتنية العلم في المعرفة وعدم تجويزها العمل بالظن بينما السندية تجوز العمل بالظن، و ثانيا خوض السندية في احوال الرجال و ذكر طعونهم وهذا من اغتياب المسلم و تفترض اصالة عدم الصحة في خبر المسلم بينما تتجنب المتنية ذلك و تفترض اصالة الصحة في خبر المسلم و ثالثا المتنية تعتمد سلامة خبر المسلم فلا تكذيب و انما تتوقف فيما لا يتضح ولا يحقق العلم السندية تجوز رد الروايات و انكارها بحجة ضعف السند و رابعا المتنية ترى ان الخطاب الشرعي موجه الى جميع العباد و ان تناولها متيسر للناس فلا اصول لفقه النص الا الاصول العقلائية العرفية و لا اختصاصية و لا ثمرة و لا نفع في ذلك بينما السندية ترى ان علم اصول الفقه و ابحاثه الدقية والبعيدة عن اذهان العرف ضروري للفقيه و الاستنباط، وهنا مشكلة قد تحدث وهي ان المستنبط السندي باعتماده مقدمات بعيدة عن اذهان العرف بالاستنباط فان ما يتوصل اليه سيكون فهما شخصيا و ليس نوعيا و في حجية هذا الفهم على غيره اشكال، بينما المتنية تعتمد الفهم العرفي العادي النوعي الذي يتيسر لكل انسان ملتفت الى النص و هذا الفهم توعي و حجة على كل انسان حتى غير المسلم ايضا.
هناك تيار يحاول ان يكون متنيا وسنديا أي اعتبار كون الحديث العلمي ان يكون له شاهد من القران وان يكون صحيح السند وهذا لا دليل عليه بل الدليل على خلافه من وجوب اعتماد علم الرجال وجرح والتعديل الذي يتتبع عورات المسلمين، ولكن يمكن اعتبار هذه المعارف ذات ميزة الا ان ما يصاحبها من خلل حتمي في مخالفة الأوامر امر يمنع من اعتمادها كما ان تلك الاحاديث لا تختلف بالحجية عن غيرها من المعارف العلمي فالعلم كله حجة ولا يتعارض ولا يختلف.
المسألة (3) : اخراج الاحكام من الظن الى العلم ( الظهور اللغوي والظهور الشرعي)
لقد دلت الايات و الروايات انه لا بد من العلم و ان لكل واقعة حكما وانه لا عمل و لا نية الا باصابة السنة ، و هذا يمنع من التمسك بالظهور اللغوي لانه ظن بل لا بد من تحقق العلم بكون ذلك الظهور اللغوي هو الحكم الشرعي، وهذا ما يمكن ان نسميه بالظهور الشرعي ، و الذي يتحصل من القرائن. بمعنى انه ليس الاصل حجية الظهور كما هو مشهور بل الاصل لاحجيته ولا بد لاثبات حجيته مقاميا من قرائن تفيد ذلك ، و اذا تعذرت وجب التوقف ، ليس لان الظهور اللغوي ليس حجة عند العقلاء و انما لان الشرع دل على ان لكل شيء بيانا علميا و ليس ظنيا يمنع من القول بالوصول اليه بالظهور اللغوي الظني ، و جواز العمل بالظهور الشرعي لانه محقق للعلم . و بهذا تخرج الاحكام المستفادة من الظواهر من الظنية و تكون جميعها علمية وحق .
مسألة (4): عدم صحة رد خبر الراوي الضعيف
ردّ خبر الراوي الضعيف ناتج من التعامل مع الاخبار عن امور الدين معاملة الاخبار عن الامور الخارجية ، و هذا ممنوع ليس فقط لعدم ثبوت تلك السيرة، فالعقلاء لا يردون خبر كل ما ليس بثقة و لا للنقل المستفيض الدال على قبول كل ما وافق القران و السنة مطلقا ، بل منها ما نص على قبول خبر الفاجر ان كان موافقا للقران و السنة كما فصلناه في فصول عرض الاخبار على القران و السنة ولا لسيرة متقدمي الفقهاء على العمل بالخبر الضعيف ولا لاختلاف الخبر الخارجي عن الخبر المعرفي، بل لحقيقة ان الاتساق محوري في معارف الانظمة الدستوية المنضبطة حدوثا كالشريعة، بينما التقبل والمشاهدة والانفعال هو المحور في الظواهر الخارجية ويجري ذلك على اخبارها. ان المميز بين الرواية المقبولة و غير المقبولة في امور الدين هو موافقة القران و السنة و مخالفتهما فيقبل الاول و يرد الثاني مطلقا . و هذا النقل المستفيض مخصص لما قد يقال من اعتبار العدالة في المخبر عن امور الدين مع ان اصل هذا الاعتبار لا يثبت حيث استدل باية التثبت وهي في خبر الفاسق وهو اخص من الراوي الضعيف، و ايات عدالة الشاهد وهي طريق تعبدي للعلم خاص، وسيرة العقلاء وهي ممنوعة في اعتبار الوثاقة معيارا لقبول الخبر كما انها طريق احراز الاتصال، وفي المعارف الدستوية التفرعية الاتصال يكون متنيا معرفيا.
مسألة (5) النص على الاعتبار بالمتن وعدم الاعتبار بالسند في تقييم الخبر.
قال تعالى ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) و قال رسول الله (ص) ألا هل عسى رجل يكذبني وهو على حشاياه متكئ ؟ قالوا: يا رسول الله ومن الذي يكذبك ؟ قال: الذي يبلغه الحديث فيقول: ما قال هذا رسول الله قط. فما جاءكم عني من حديث موافق للحق فأنا قلته وما أتاكم عني من حديث لا يوافق الحق فلم أقله .* و قال صلى الله عليه و اله إنه سيكذب علي كما كذب على من كان قبلي فما جاءكم عني من حديث وافق كتاب الله فهو حديثي، وأما ما خالف كتاب الله فليس من حديثي. و بلغنا عنهم عليهم السلام قولهم : ما جاءك في رواية من بر أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك في رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به. * إن الله عز وجل يقول في كتابه: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين. يقول: يصدق لله ويصدق، للمؤمنين فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم.
مسألة (6) الحديث من الرواية الى المضمون.
قال تعالى ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) و بلغنا عنهم صلوات الله عليهم انهم قالوا : لا تقبلوا علينا خلاف القرآن فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة و عنهم عليهم السلام ما جاءك في رواية من بر أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك في رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به. و عنهم عليهم السلام ما جاءكم عني يوافق القرآن فأنا قلته، وما جاءكم عني لا يوافق القرآن فلم أقله. و قالوا عليهم السلام إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوا به وما خالف كتاب الله فدعوه. وعنهم عليهم السلام عليكم بالدرايات لا بالروايات. و قالوا عليهم السلام العلماء تحزنهم الدراية، والجهال تحزنهم الرواية.
اقول ان هذه المضامين و مثلها كثير تدل على ان الاعتبار بالمضمون و المتن ، و لهذا لا وجه للاستمرار بطريقة الرواية و الاسناد، كما ان الحديث المركب من اكثر من مضمون يصح تفكيكه لأجل عرض كل مضمون مستقل على القران و السنة. من الواضح جدا ان الخلل الذي يحدث في الخبر ليس بالضرورة في مجمعه بان يكون او لا يكون بان يوضع او لا يوضع بل الاكثر حدوثا هو احداث تحريف فيه باضافة او نقص، لذلك يكون من اللازم تفكيك الروايات ذات المضامين المتعددة اجل عدم خلط النقي من مضمونها مع ما تم الاخلال فيه. فلو كانت الرواية تشتمل على اكثر من مضمون احدها مصدق وله شاهد والاخر غير مصدق ولا شاهد له، وجب العمل بالاول ولم يجز العمل بالثاني. وهذا هو مبدأ تفكيك الرواية.
مسألة (7) آلية الرد الى القران والسنة
لقد جاء في الخبر المصدق ( لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة. ) فالردّ يكون الى محكم كتاب الله تعالى الذي لا ريب فيه و الى الواضح من السنّة الذي لا يشك فيها و الى الثابت من أقوال أهل البيت عليهم السلام فلا تكليف بأكثر من ذلك والامر اوضح فيما هو حرجي المنفي بالثابت من الشرع قال تعالى (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) و قال تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) . فاشتراط القطع في العقائد لا وجه له . كما ان العبرة في العلم الحاصل هو الانسان النوعي العرفي فلا يثبت بالادعاء ان لم يفد علما كما أنه لا يضر به انكار منكر ان فاد العلم عند الانسان النوعي العرفي . و العلم بالسنة علما جازما لا يداخله شك لا يشترط التواتر او الضرورة او الاتفاق وهذا واضح لكل انسان .
و النقل الذي يعتمد والذي منه يؤخذ الحديث المحكم المفيد للعلم هو نقل المسلمين جميعهم في جميع كتبهم من دون تصنيف او تقسيم او تفريق نقلي مذهبي ، فانّ مذهبة النقل لا دليل عليها من قرآن او سنة. فعلى المسلم المؤمن ان يأخذ بكل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و اله وأهل بيته عليهم السلام في أي كتاب ثبت له ذلك النقل وكان مصدقا بالكتاب.
ان مذهبة النقل هو اهم سبب لاستمرار الفرقة بين المسلمين، كما انه الحاجز الحقيقي امام الاخذ من الاخرين موروثا وفكرا، اضافة الى انه ترسيخ لاعمال تخالف ولاية الاسلام ان لم تكن تعارضها. ومن هنا يكون واضحا بطلان مذهبة النقل والواجب اعتماد النقل العابر للمذاهب واعتماد العرض على القرآن كمقياس لتمييز النقل الصحيح من النقل السقيم لا حال الراوية او مذهبه.
مسألة ( 8) المصدقية كمحور لقبول الخبر
قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) ان هذه الآية مفصلة و محكمة بخصوص الايمان بالدعوة و شروط و دواعي تصديقها ، و تبين شرط التصديق بالنقل . وهي ظاهرة في ان المضمون و المعرفة المصدقة لما قبلها و لما هو خارجها من معارف حقة هو المعتبر في الايمان بالدعوة . كما انها تدل على النهي بالتشبث بالنقل الخاص و رفض النقل الخارجي بحجة الاكتفاء بالأول . و من خلال اطراف الدعوة و النقل و عدم تعرض الآية لشخصية الناقل تشير الى عدم الاعتبار بحال الناقل و انما الاعتبار بالمضمون و الدعوة ذاتها .
ان محورية القيمة المتنية للخبر ليس فقط مما يفرضه العقل بان الشرع ايضا فهو نظام له دستور و روح و مقاصد و رحى و قطب تدور حوله باقي اجزائه و انظمته ، و ان كل ما يخالف تلك الروح و المقاصد لا يؤخذ به . فالشرع نظام واضح المعالم فيه معارف ثابتة قطعية لا يصح مخالفتها ،و الاخبار الظنية مهما كانت درجة الاطمئنان بصدورها فانها خاضعة فيه للتقييم المتني كما هو حال اي نظام معرفي اختصاصي يحتكم الى عمومات وقواعد ثابتة ظاهرة هي دستور النظام و عموده وعلى ذلك ظاهر الاخبار المستفيضة بل المعارف الشرعية الثابتة . و من الجلي جدا ان في الشريعة معارف ثابتة لا يصح قبول ما يخالفها ، و يكون المخالف لها مشكلا ضعيفا و غير المخالف قويا بل ان القرآن و السنة قد جاءت بذلك بشكل لا يقبل الشك .
ان محورية المصدقية في قبول الدعوة و تبين احقيتها ظاهر في الكتاب العزيز قال تعالى (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) فهنا جعلت الدعوة للايمان بسبب ان الدعوة مصدقة و موافقة لما عند المدعوين . و كذلك قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) و قوله تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) و قوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) و قال تعالى (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ ) هذه الآية تشير الى ان مصدر الايمان كون المسموع هدى بشكل مطلق من دون نظر الى حالة الناقل . و ان قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) يشير الى ان المذهبية باطلة اذ نهى القران و ذم التعذر بالتشبث بالخاص و امر بالايمان بالهدى .و قوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) يشعر بل هو ظاهر بان المصدقية شرط في الكتاب و الحق فيه . بل ان ظاهر القرآن كون المصدقية هي الداعي و المعتبر لتصديق القائل بدعوة قال تعالى (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) . بل ان النهي قد ورد صريحا في عدم جواز رد الدعوة المصدقة بما عند المدعو قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) .كما ان الله تعالى قد وصف الدعوات التي ليس لها مصدق و التي تكون عن الهوى بالظن الذي لا يصح اتباعه قال تعالى (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ) لاحظ كيف ان القران بين كون فقدان السلطان من الله انه مما تهوى الانفس و اسقط تلك المعرفة عن الاعتبار بذلك ، و من الظاهر ان ذلك بغض النظر عن القائل . و يشعر بذلك نفي العلم عن المعرفة الظنية التي لا تتسم بالمصدقية قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (*) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) فان العلم المفقود هنا و ان كان هو الاخبار بطريق علمي الا ان من ضمنه كما عرفت ان يكون مصدقا بدليل الاشارة الى ان ذلك ظن ، و لو انه كان مصدقا لخرج عن هذه الدائرة . اذن المصدقية في الدعوة و الداعي اليها هي المعتبر الحق و الداعي للايمان بها ، و ان رد الدعوة المصدقة بما عند المدعو منهي عنه و مذموم قرآنيا .
و يؤيد كل ما تقدم ان الله تعالى جعل الصدق و الحق شرط في المعرفة العلمية و وجه الايمان بالدعوة واتباعها ، و ان الواجب اتباع الصدق و الحق بعلاماته الذاتية بغض النظر عن طريق نقله و وصوله قال تعالى ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (*) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) فلاحظ كيف جعل الله تعالى الصدق و الواقعية مصدر المعرفة و صفة العلم و ان غيره هو الظن قال تعالى (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ) ان الامر هنا وجه الى الكافرين كما هو ظاهر و مثله قوله تعالى (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) فان المركزية هنا لكون المعرفة حقة بغض النظر عن نقالها . و قال تعالى ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (*) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) و الآية ظاهرة في جعل الحق و المضمون الموافق له المصدر و الداعي الاساسي لقبول الدعوة لا غير . ان هذا التعريف العلمي للظن بانه ما خالف الصدق و ان العلم ما كان صدقا يبطل دعوى ان قوة السند تقلل من ظنية الخبر و ان الاختلاف بينها في درجة الظنية . و آيات الحق دالة على كون مصدر الايمان هو ما في المتن و المضمون من معرفة مطلقا من دون الاشارة الى القائل في هذا المقام قال تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) و قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ) و قال تعالى (شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) و قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ) و قال تعالى (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) بل تجد تأكيدا على اعتبار المضمون و الدعوة مثل قوله تعالى ( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) . و على ذلك جاءت الاخبار المستفيضة المصدقة بذلك و الموافقة لذلك . فعن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل شيء مردود إلى كتاب الله والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف. و عن أيوب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: إذا حدثتم عني بالحديث فانحلوني أهنأه وأسهله وأرشده، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن لم يوافق كتاب الله فلم أقله. و عن ابن أبي يعفور، قال علي: وحدثني الحسين بن أبي العلاء أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف يرويه من يثق به ، فقال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتموه له شاهد من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه واله، وإلا فالذي جاءكم به أولى . وعن على أبي الحسن الرضا عليه السلام انه قال لا تقبلوا علينا خلاف القرآن فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة، إنا عن الله وعن رسوله نحدث، ولا نقول: قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا، إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا، وكلام أولنا مصداق لكلام آخرنا، وإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه وقولوا: أنت أعلم و ما جئت به، فإن مع كل قول منا حقيقة وعليه نور، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك قول الشيطان.
من هنا يصح القول ان القرآن الكريم ظاهر في ان الاعتبار بخصائص المضمون المنقول بالمصدقية و المطابقة للحق بعلامات ذاتية ، فيصح نسبة النقل الى النبي صلى الله عليه و اله بتحقيق صفات المصدقية و الموافقة للقران و السنة الثابتة ، و لا وجه للتصرف بالنقل و لا ادخال امور اخرى لا شاهد عليها . فكل ما ينسب الى النبي صلى الله عليه و اله وكان مصدقا بالقران و السنة و عليه شاهد منهما يكون معتبرا و يجب التسليم به و لا يصح رده او التصرف فيه و كل ما تقدم من آيات دالة على ذلك و الروايات مستفيضة في ذلك بينا بعضها .