عرض الحديث (2)

 

 مدخل في علامات الحق

 الحديث عن علامات الحق يكون في مواضع:

الموضع الاول: علامات المعرفة الحقة.

 للمعرفة الحقة علامات:

العلامة الاولى:  ان تكون المعرفة علما وليس ظنا.

قال الله تعالى (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) . و قال تعالى (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) . و قال تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). و قال تعالى (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ). فلا يصح اعتماد الظن ومنه النقل الظني الذي ليس له شاهد من المعارف الثابتة يوجب الاطمئنان له، و صحة السند لا تنفع في اخراجه من الظن كما بيناه.

 

العلامة الثانية: ان تنتهي المعرفة الى الله والرسول وولي الامر

قال الله تعالى (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ). و قال تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) . و قال تعالى (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ).  وقال تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .فاطاعة رسول الله صلى الله عليه و اله اي الانتهاء اليه ووجوبها عليها الضرورة الدينية .

 

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ منكم) . وقال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) وهو مطلق يفسر بما تقدم. وقال تعالى (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ). فطاعة ولي الامر واجبة وهي الانتهاء الى قوله.

ولولي الامر صفات توجبها حكمة التشريع و احاطته لقطع التردد والتعلل و الاختلاف. منها ان يكون مؤمنا عدلا لقوله تعالى (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )، وان يكون عالما بالله و رسوله قال تعالى  (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ،وان يكون عالما بالكتاب قال تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ )، وان يكون هاديا قال تعالى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى ) و الهادي يتصف بما تقدم من الايمان و التقوى و العلم. وان يكون ولي الامر الاقرب للنبي صلى الله عليه و اله قال تعالى (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) ، وقال تعالى  (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) والاية الاخيرة تثبت مبدأ الاصطفاء اي التعيين من الله وهو المصدق بالاحاطة والعلم والنصوص القرانية في الاختيار والامر والجعل. قال تعالى (  لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ).  وقال تعالى  (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ). وقال تعالى  (رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ. مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.) وايضا يصدقه  كونه هو الجاعل للائمة والخلفاء. قال تعالى (  يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً ) و قال تعالى (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) و قال تعالى ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) وهو مشبه لقوله تعالى في الرسل ( وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ).

ان تلك الصفات التي ذكرناها و المصدقة بالفطرة قد جمعتها السنة القطعية لاهل البيت صلوات الله عليهم الذين قرن ذكرهم صلى الله عليه و اله بذكره، وخصتهم بها النصوص الموجبة للعلم باثني عشر خليفة. الثابت حقا والمصدق مطلقا انهم بجعل من الله واختيار منه، وعلى ذلك دلالة العقل حيث انه لا بد لهذا العلم الاجمالي بالولي المفترض الطاعة من ان يحل الى علم تفصيلي والا عطل. و لدينا معرفة عليها من الشواهد ما يوجب العلم الاطمئنان فوجب اعتمادها واعتقادها.

 

العلامة الثالثة: ان تكون المعرفة موافقة لما هو معلوم من محكم القرآن وقطعي السنة  

  قال تعالى  (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) وما بين يديه اي قبله، اي ما علم قبله. والمصدّق كما سابين يتضمن الموافقة وعدم المخالفة بعد عرض المعرفة على ما هو معلوم قبلها. والاية جعلت من علامات الحق انه مصدق بما علم والذي يعني انه موافق بما علم قبله. وقال تعالى (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) ففرض الايمان بما هو مصدق بما علم، وهو يعني موافق لما علم.  وقال تعالى ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ). وعدم الاختلاف هو الموافقة، وهو مثال فيجري في كل معرفة بان تكونة موافقة للقران وموافقة بعضها لبعض لا تختلف.  وقال تعالى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ). وهو عام يشمل الاختلاف المعرفي فيكون بالتسليم الى الله تعالى ورده اليه والى كتابه اي موافقته له. قال تعالى ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) اي والى ولي الامر، اي فارجعوا فيه الى الرسول و الى ولي الامر من بعده. وبعمومه يشمل الاختلاف المعرفي بالرجوع الى امر الله وحكمه وما بينه الرسول وارشد اليه لي الامر خليفته ووصيه. وعرضه على ما علم من امر الله وحكمه فيعمل بما وفق ذلك. ففي الحديث المصدق في النهج قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : قد قال الله سبحانه لقوم أحب إرشادهم: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول. فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة و عليه ايات المصدقية بان الحق يصدق بعضه بعضا وقد تقدم بيان ذلك مفصلا.

ولا بد من التأكيد ان الموافقة وعدم الاختلاف لا تعني مطلق عدم التعارض فان ذلك لا يحقق اتصالا ولا عصمة ولا علما، بل الموافقة تعني وجود شاهد ومصدق مما علم وثبت لما يعلم ويبحث ثبوته. فان كان له شاهد ومصدق مما علم فهو موافق له، والاول يسمى اصلا للثاني. فالاصل المعرفي هو المعرفة الثابتة المعلومة التي تعرض عليها غيرها. وكل معرفة تعلم وتثبت يمكن ان تصبح اصلا لاخرى جديدة بعرض هذه المعرفة الجديدة عليها عليها.

 

 العلامة الرابعة ان تكون مأثورة منقولة عن مصدر العلم .

 

قال تعالى (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) . وقال تعالى (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ) . وقال تعالى (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ . أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ؟ ). وقال تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ). فصح التعبد بالنقل المنتهي الى مصدر العلم.

 

 العلامة الخامسة ان تكون المعرفة موافقة للعقل و فطرة الانسان

   قال تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ )  وقال تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) وقال تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) و قال تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا ). والحسن هذا كله ارتكازي عقلائي ووجداني و ليس تشريعيا او تعبديا للدور وان كان الحسن الشرعي موافقا دوما للحسن العقلائي. كما ان القران اعلى شأن العقل واِعماله؛ قال تعالى (  لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ). و قال تعالى (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ). و قال تعالى (وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ). و قوله تعالى (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ،وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ). فخاطب الله العقول بل حصر الاهتداء الى الحق باهل العقول، فاستعمال العقل لأجل الاهتداء و تبين الحقائق و الايمان و الاعتقاد السليم من جوهر الشريعة فقال تعالى (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) و قال تعالى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) و قال تعالى (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ). وهذه الايات وايات التفكر تدل على الوجوب العيني للتعقل والتفكر وايضا التدبر وكلها اوسع واعم من الاجتهاد في تحصيل المعرفة، فيكون وجوبه ضمنيا بها.

كما ان الله تعالى بين الكفر والنفاق هو من علامات عدم العقل؛ قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ) . و قال تعالى (وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) و قال تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ). و قال تعالى (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ). وقال تعالى (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) و العقل هنا هو التعقل و التدبر و التمييز الفطري الهادي الى النور و حقائق الايمان و ليس الابحاث العقلية الدقية التي لا يتعقلها العرف ولا يعرفها الانسان العادي. هذا وان العقل لا يهدي الا الى الايمان فكلما ازدادت قوة التمييز و الادراك ازداد الادراك بحقائق الايمان و ازدادت المعرفة الا ان الهوى و الثقافات و الميول و الاحكام الموروثة قد تؤدي الى تشويش و ارباك و اخلال في جانب الايمان فترى الانسان على درجة عالية من الذكاء و التمييز والتحليل بل و العبقرية الا انه لا يتهدي الى الايمان. ومن هذا حاله هو بحكم من لا عقل له لان العقل الحقيقي هو الهادي الى الخير، و من اهم سبل الخير الايمان و التقوى، فمن لا ايمان له ولا تقوى هو ناقص عقل مهما بلغ من ذكاء او عبقرية. وهذا الحكم ليس بشواهد نقلية شرعية فقط بل هو باسس عقلائية لان تمام العقل متقوم بمعرفة الخير وعمله و الايمان و التقوى من اهم اشكال الخير بل لا خير حقيقة من دونها. والكلام عن دليل الحكم الاخير له مكان اخر ليس هذا محله.

 

العلامة السادسة: ان تكون المعرفة مصدقة بعضها لبعض فلا اختلاف فيها.

قال تعالى  (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ). و قال تعالى ( قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ). و قال تعالى (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) . و قال تعالى (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ). وقال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) . و قال تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ). و قال تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) . و قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ). و قال تعالى (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً ) .و قال تعالى (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) وقال تعالى ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) . و قال تعالى (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).

 

 اقول اصالة المصدقية اي ان المعرفة لها مصدق معلوم، و اصالة عدم الاختلاف الذي له جذر عقلائي من اهم الاسس لمنهج العرض حيث انها تتضمنه.  

لاهمية هذا الاصل   فاني ساتكلم هنا على محوريته في الشرع و عند العقلاء.   قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) ان هذه الآية مفصلة و محكمة بخصوص دواعي الايمان بالدعوة  و شروط صدقها وكونها حقا.. وهي ظاهرة في ان المضمون و المعرفة  المصدقة لما قبلها و لما هو خارجها من معارف حقة امر معتبر في الايمان بالدعوة بل هو من علامة الحق ومن موجبات الايمان. وهذا – اي المصدقية- هو الميزان في التصحيح النقل في الفقه العرضي.

ان محورية القيمة المتنية للخبر مما يصدقه العقل بل واقره سلوك العقلاء في تعاملاتهم الحياتية والشرع  جرى على ذلك، و لحقيقة كون الشرع نظاما له دستور و روح ومقاصد ورحى و قطب تدور حوله باقي اجزائه وانظمته، كان الرد والتناسق والتوافق اساسيا ومتأصلا فيه. فكل ما يخالف تلك الروح و المقاصد لا يقر. ولا يتحقق اطمئنان او استقرار انتسابي واذعان تصديقي الا بان تكون المعارف متناسقة متوافقة يشهد بعضها لبعض وهذا مطلب عقلائي ارتكازي.

لا بد من التأكد و التذكير دوما ان الشرع  نظام معرفي واضح المعالم والحمد لله وهي حصانة له، وفيه معارف ثابتة قطعية لا يصح مخالفتها لانه من نقض الغرض ومن الاخلال بالنظام. فالاخبار الظنية مهما كانت صحة سندها خاضعة لعملية الرد والعرض والى وجوب تبين مدى الموافقة والتناسب و مدى الاقتراب من جوهر الشريعة او مدى ابتعادها وشذوذها او مخالفتها للقطعي. وهل يعرف غرابة و شذوذ ما ينسب للشرع بظنون نقلية من تفسيرات لايات او تاويلات او روايات احاد الا من خلال الرد و العرض، بل ان سيرة المتشرعة حمل ظواهر الاحاديث المشكلة على ما يوافق الثابت المعلوم، بل ان ظواهر الايات المتشابهة يحمل على محكمها، وهذا كله من تطبيقات العرض و الرد.

فالتقييم المتني  متجذر و عميق في الشرع كما هو حال اي نظام معرفي دستوري اختصاصي يحتكم الى عمومات وقواعد  ثابتة ظاهرة هي روح النظام و جوهره لا يقبل الا ما توافق معها و يرد ما خالفها، وعلى ذلك المعارف الشرعية الثابتة بل الارتكاز الشرعي المصدق بسيرة العقلاء بل وفطرتهم. فمن الجلي جدا ان ما يخالف ما هو قطعي من الشرع يكون مشكلا بل احيانا يحكم بانه منكر واحيانا يحكم انه كذب. و لقد رد او كذب السلف والاعلام و من لا يشك في ورعه و تقواه  معارف كانت بهذه الصفة ليس الا انهم طبقوا الرد و العرض.

 لقد بين القرآن الكريم و بوضوح بان الحقيّة و العلمية والباطلية والظنية هي صفة للمتن بذاته بغض النظر عن ناقله ، قال تعالى (  وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ). فلاحظ كيف جعل الله تعالى الصدق والواقعية مصدر المعرفة و ان غيره من الظن لا ينفع وان قال به الاكثرون. ولا ريب ان الاكثرية مصدر اطمئنان عند بعض اهل القرائن وبعض اهل السند.

 ولاحظ معي هذا الاعتبار لقد قال تعالى :(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) . ان الامر هنا وجه الى كافرين كما هو معلوم وطلب منهم اخراج علم، فالعلم لا يتعارض مع كون ناقله كافرا، وهذا ظاهر ان المركزية للمتن وليس للناقل اذ النقلة كفرة فضلا عن كونهم فسقة. و في المقابل قال تعالى (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، فالاية صريحة ان علمية الانسان لا تحصنه من الباطل و لا تمنعه فان الملبسين هنا وصفهم بالعلم اي انهم عالمون والمعروف انهم علماء قومهم، و العلم بالاخلال والتحريف كشف عن عدم اماتنهم و ليس العكس، كما انه امرهم بعدم الكتمان، وهم كفرة، وهو يقتضي السماع منهم والاخذ بما يظهرون من الحق. فالمركزية هنا  ايضا للمتن فالخلل بالمتن من تلبيس وكتمان رغم درايتهم و ضبطهم وعلمهم  الا انه كشف عن عدم امانتهم و عدم صدقهم. فاضافة الى ان العلم والدراية لا يضمن صدق الحديث فتانه من خلال بطلان المتن الذي نقلوه – الذي علم بالعرض وعدم المصدق- علم عدم امانتهم و ليس العكس. فالقرآن يبين ان الخلل بالمتن وبطلانه – من خلال عرضه على ما هو معلوم- كاشف عن عدم صدق الناقل وكذبه، وليس العكس.  وان العلم بالحق وتمام المتن – من خلال عرضه على ما هو معلم- كاشف عن صدق الناقل وامانته وليس العكس. فمن خلال صحة المتن نعلم صحة السند ليس العكس  الذي هو سائد الان.

وانظر الى هذا الاعتبار ايضا:  قال تعالى (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ )، ولا ريب ان علمهم بكون الدعوى حق هو لاجل ما فيها اي لاجل متنها و ليس لمعرفتهم او اعتقادهم ان النبي امين لا يكذب، لما بينه القرآن مرار وتكرارا ان يصدق ما عندهم، وهم ليسوا من اهل مكة الذين علموا امانة النبي وليس من اشارة باعتماد هذا الميزان في التصديق. وهذا العلم انما كان لاجل عرضهم و ردهم ما في الدعوى اي المنتن الى ما عندهم. و على هذا ايضا قوله تعالى  و قال تعالى (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فان درجة اليقين هذه انما تحققت بالرد والعرض ومطابقة ما في دعوى الرسول صلى الله عليه و اله لما عندهم وليس لثوقهم به وكونه معروف بالصدق؛ قال الله تعالى (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) وقال الله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وفيه اشارة ان دعوى الرسالة تعرف من خلال كون كلامه مصدق لما قبله وله شاهد منه. وقال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ). ولا يقال ان هذا لا عموم له لان الله تعالى شهد ان دعوة النبي حق، وفيه ان شهادة الله للنبي بان دعوته حق ثابت، لكن الله تعالى جعل طريقا وعلامة للناس للاستدلال على انها حق اضافة لشهادته تعالى ليس من اتمام الحجة وانما من بيان الطريق الاخر للعلم، فهو من تعدد الطرق.

في ضوء ما تقدم تتضح مركزية المتن في تبين كون المعرفة حقا بل وفي كون المصدقية الاساس الواجب الذي بتخلفه يتخلف العلم بكونها حقا. ومن هذا يتفرع ويتضح مركزية الصفات المتنية كمميز اساسي للاحاديث الظنية – اي التي لا يعلم كونها صدقا او كذبا-  من كونها ما يطمأن له و مما لا يطمأن له. و من المعلوم هذا التمييز الاطمئناني هو الاساس لجميع المسالك التمييزية للحديث الظني بجميع مشاربها حتى المنهج السندي. ووفق المنهج المتني ومنهج العرض فالحديث الظني الذي له شاهد و مصدق من القران و السنة يكون داخلا في خانة الاطمئنان والعلم بغض النظر عن قوة طريق روايته او ضعفه. و الحديث الظني الذي ليس له شاهد او مصدق من القران و السنة يدخل في خانة عدم الاطمئنان وعدم العلم بغض النظر عن ضعف طريقه او قوته. و من ثم جاء حديث العرض – الذي سنذكره- ليكون نصا في الباب كتطبيق لكل تلك المعارف وفرع لها.